"بمناسبة احتفالات عيد الصليب المجيد" تبعية المسيح وحمل الصليب




تبعية المسيح وحمل الصليب
«حينَئذٍ قالَ يَسوعُ لتلاميذِهِ:"إنْ أرادَ أحَدٌ أنْ يأتيَ ورائي فليُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعني، فإنَّ مَنْ أرادَ أنْ يُخَلِّصَ نَفسَهُ يُهلِكُها، ومَنْ يُهلِكُ نَفسَهُ مِنْ أجلي يَجِدُها. لأنَّهُ ماذا يَنتَفِعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ وخَسِرَ نَفسَهُ؟ أو ماذا يُعطي الإنسانُ فِداءً عن نَفسِهِ؟»

(متى 16: 24-26).
كثيرون تبعوا المسيح بشروط، وآخرون تراجعوا عنه لاحقًا، والبعض استمرّوا ولكن متذمِّرين، وهناك من يتبعونه شكليًا فقط وهم لا يحملون سماته الباطنية، كما أنهم مستعدون لإنكاره عند أدنى ضغط. وقد وضع السيد المسيح شروطًا لتبعيته، وعليها سوف يقتني الإنسان نفسه أو يتسبّب في هلاكها، أول تلك الشروط هو:

1- التخلّي:

التخلّي عن الممتلكات والأهل: «إنْ كانَ أحَدٌ يأتي إلَيَّ ولا يُبغِضُ أباهُ وأُمَّهُ وامرأتَهُ وأولادَهُ وإخوَتَهُ وأخَواتِهِ، حتَّى نَفسَهُ أيضًا، فلا يَقدِرُ أنْ يكونَ لي تِلميذًا» (لوقا 14: 26)؛ والبغضة هنا لا تعني الكراهية وإنما تعني أن يأتي ترتيب الله أولاً ودائمًا، وبذلك يزول التناقض الظاهري بين هذه البغضة للأهل من جهة، ووصية إكرام الوالدين من جهة أخرى: «أكرِمْ أباكَ وأُمَّكَ لكَيْ تطولَ أيّامُكَ علَى الأرضِ التي يُعطيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ» (خروج 20: 12)، كما يقول القديس يوحنا: «كُلُّ مَنْ يُبغِضُ أخاهُ فهو قاتِلُ نَفسٍ، وأنتُمْ تعلَمونَ أنَّ كُلَّ قاتِلِ نَفسٍ ليس لهُ حياةٌ أبديَّةٌ ثابِتَةٌ فيهِ» (1يوحنا 3: 15)، كذلك يقول القديس بولس: «وإنْ كانَ أحَدٌ لا يَعتَني بخاصَّتِهِ، ولا سيَّما أهلُ بَيتِهِ، فقد أنكَرَ الإيمانَ، وهو شَرٌّ مِنْ غَيرِ المؤمِنِ» (1تيموثاوس 5: Cool. ولقد مَنَعَ التعلُّق العاطفي والمَرَضي بالأهل الكثيرين من تبعية الرب، ليس على مستوى الرهبنة والتكريس فحسب، بل حتى في الخدمة وفي التناول وفي عمل الخير، وعندما دعا الرب البعض لتبعيته استعفى بعضهم قائلاً: «وقالَ لآخَرَ:"اتبَعني". فقالَ:"ياسيِّدُ، ائذَنْ لي أنْ أمضيَ أوَّلاً وأدفِنَ أبي".» (لوقا 9: 59).

2- ترك المقتنيات:

وهو ما اختبر به الرب الشاب الغني: "«بِعْ أملاكَكَ وأعطِ الفُقَراءَ، فيكونَ لكَ كنزٌ في السماءِ، وتعالَ اتبَعني» (متى 19: 21)، ولكن الشاب الذي تمسّك بماله خسر الملكوت، لأنه لا يمكن التمسك بالاثنين: «لا يَقدِرُ خادِمٌ أنْ يَخدِمَ سيِّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ الواحِدَ ويُحِبَّ الآخَرَ، أو يُلازِمَ الواحِدَ ويَحتَقِرَ الآخَرَ. لا تقدِرونَ أنْ تخدِموا اللهَ والمالَ» (لوقا 16: 13).

كثيرين يحبّون الجسد، ويدلّلون الجسد: يشترون الأفضل، ويأكلون الأسمن والأثمن، ويتفنّنون في ألوان الطعام، يغيّرون الأثاث والديكورات، يخرجون للعشاء، يسافرون للتنّزه، يرتدون أفخر الثياب ويشترونها من أشهر المحال، وهي أمور ليست مرفوضة تمامًا، ولكن المرفوض هو أن تحلّ هذه الاهتمامات مكان الله: «ولكن الذينَ هُم للمَسيحِ قد صَلَبوا الجَسَدَ مع الأهواءِ والشَّهَواتِ» (غلاطية 5: 24)، والعجيب أن الناس يغفلون عن أن كل ذلك سيتركونه كارهين، ونرى ونسمع ونشارك كثيرًا في الصلاة على الراقدين، ونتأكد أنهم خرجوا كما وُلِدوا، ولكننا سريعًا ما ننسى ونعود إلى سابق اهتماماتنا الأرضية.

كم من مرّة منعت شهوة الطعام البعض من الصوم؟ وكم مرّة منع السهر واللهو من أن نبكِّر للقداس؟ وكم مرّة ضغطنا على ضمائرنا للحصول على مزيد من المال لإرضاء شهواتنا ورغباتنا المادية؟

كم من مرة استغلّ الناس احتياج الكنيسة إلى عقارات وأراضي لخدمة الشعب، فتاجروا بالكنيسة في وضوح ودون حياء، ونسوا أن الكنيسة باقية وهم زائلون! في حين أحسن كثيرون إلى الكنيسة من خلال المساهمة والتبرّع والتنازل عن حقوقهم، لينالوا بركة، ويكنزوا لهم كنزًا في السماء، بل الأكثر من ذلك لم يشعروا في أنفسهم أنهم يصنعون خيرًا في الكنيسة، كما لم يحصلوا على ضمانات أن ما يصنعونه يستحق المكافأة، بل لم يهتموا أصلاً، واكتفوا بأنهم إنما يفعلون ذلك حبًّا بالمسيح وفي هذا سعادتهم.

3- التخلّي عن الذات (إنكار الذات):

يقول الرب: «حتَّى نَفسَهُ» (لوقا 14: 26)، فحمل الصليب فيه إهانة للذات: فقد كان المحكوم عليه بالصلب يسير حاملاً صليبه وأمامه من يحمل لافته عليها التهمة المنسوبة إليه، ويشبع تعييرًا وشتمًا وإهانة من المصطفّين على الطريق ومن المارّة، ويُقذَف بالحجارة، تشيّعه نظرات الشماتة. ولذلك فحمل الصليب يقترن بإنكار الذات، فكم من مرّة حالت الذات بين شخص وبين إكليل الشهادة، أو بينه وبين فضيلة من الفضائل، كالاحتمال والعطاء وغيرها.

من هنا أيضًا فإن المعمودية هي أول اسرار الكنيسة، عبارة عن موت وحياة، دفن وقيامة؛ فهي مدخل تبعية المسيح، وهي بالتالي الدرس المسيحي الأول، ففيها التعرّي من العالم، وفيها جحد الشيطان والخروج من مملكته كشرط لتبعية المسيح. لذلك فكل من يحب نفسه يهلكها ومن ينكر نفسه يخلّصها، وعلينا بالتالي أن نفعل ما يبني أنفسنا لا ما يرضي أنفسنا. القديس بولس نقل لنا هذه الخبرة عندما قال: «لكن ما كانَ لي رِبحًا، فهذا قد حَسِبتُهُ مِنْ أجلِ المَسيحِ خَسارَةً. بل إنِّي أحسِبُ كُلَّ شَيءٍ أيضًا خَسارَةً مِنْ أجلِ فضلِ مَعرِفَةِ المَسيحِ يَسوعَ رَبِّي، الذي مِنْ أجلِهِ خَسِرتُ كُلَّ الأشياءِ، وأنا أحسِبُها نُفايَةً لكَيْ أربَحَ المَسيحَ» (فيلبي 3: 7، Cool.

+ + +
حمل الصليب:

هو أساس التلمذة للمسيح: «ومَنْ لا يَحمِلُ صَليبَهُ ويأتي ورائي فلا يَقدِرُ أنْ يكونَ لي تِلميذًا» (لوقا 14: 27)، كما قال أيضًا لتلاميذه: «إنْ أرادَ أحَدٌ أنْ يأتيَ ورائي فليُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعني» (متى 16: 24)، ولم يكن الأمر موجَّهًا لتلاميذه فقط بل الكل: «ودَعا الجَمعَ مع تلاميذِهِ وقالَ لهُمْ:"مَنْ أرادَ أنْ يأتيَ ورائي فليُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعني".» (مرقس 8: 34)، «وقالَ للجميعِ:"إنْ أرادَ أحَدٌ أنْ يأتيَ ورائي، فليُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يومٍ، ويتبَعني"» (لوقا 9: 23).

البعض يحمل الصليب كعرقية، أو مجرد علامة مسيحية، ويدخل في ذلك نوعه ومادته وأحجامه، إن كان على الصدر أو على اليد، أو مرسومًا على متعلَّقاتنا، أو معلَّقًا في سياراتنا الخ، وهو أمر جميل يحمل نوعًا من الفخر بمسيحيتنا، مثلما نفرح بأن يرشم لاعب علامة الصليب في الملعب، أو أن يرسمه البعض على ثيابهم الرياضية، أو داخل الـ"لوجو" أو الرمز التجاري أو الصناعي له؛ ولكن الصليب الذي طلب الرب منّا أن نحمله هو التجارب والضيقات التي تأتي علينا من جرّاء تبعيته، وقد تكون الصلبان أو التجارب نفسية أو مادية أو مالية أو أدبية.

وان كان هناك من حمل الصليب مادة وآلاما، مثلما حدث في بعض العصور حين ُالزم المسيحيين بحمل صلبان ثقيلة من الزهر أو الرصاص تحقيرا لهم، ثقلت أعناقهم وتسببت في أن نفرت عروقهم وازرقت (حتى أنه اطلق على المسيحيين بسبب ذلك "ذوي العظم الازرق أو "عظمة زرقا") وهكذا حملوه شكلا وموضوعا. "نحملك أيها الصليب ناصر المسيحيين على أعناقنا بشجاعة" (ذكصولوجية الصليب).

والصليب هام وضروري لأنه لا قيامة بدون صليب ولا صليب بدون قيامة، كما أن حبّة الحنطة ما لم تقع أولاً في الأرض وتمت فلن تأتي بثمر: «الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنْ لم تقَعْ حَبَّةُ الحِنطَةِ في الأرضِ وتمُتْ فهي تبقَى وحدَها. ولكن إنْ ماتَتْ تأتي بثَمَرٍ كثيرٍ» (يوحنا 12: 24)، كما أننا دُعِينا للألم والاضطهاد: «لأنَّهُ أيُّ مَجدٍ هو إنْ كنتُم تُلطَمونَ مُخطِئينَ فتصبِرونَ؟ بل إنْ كنتُم تتألَّمونَ عامِلينَ الخَيرَ فتصبِرونَ، فهذا فضلٌ عِندَ اللهِ، لأنَّكُمْ لهذا دُعيتُمْ. فإنَّ المَسيحَ أيضًا تألَّمَ لأجلِنا، تارِكًا لنا مِثالاً لكَيْ تتَّبِعوا خُطواتِهِ» (1بطرس 2: 20، 21)؛ «غَيرَ مُجازينَ عن شَرٍّ بشَرٍّ أو عن شَتيمَةٍ بشَتيمَةٍ، بل بالعَكسِ مُبارِكينَ، عالِمينَ أنَّكُمْ لهذا دُعيتُمْ لكَيْ ترِثوا بَرَكَةً» (1بطرس 3: 9).

الصلبان في الحياة:

لكل منا صليبه المناسب لقامته الروحية وظروف حياته، وتقول القصص الشعبية أن واحدًا تذمّر على صليبه وطلب استبداله، ولما طُلِب إليه اختيار ما يناسبه راح يتنقّل بين الصلبان حتى اختار أخفّها وأشيكها، فلمّا تفحّصه جيدًا وجده أنه صليبه الذي اختاره له الرب منذ البداية.

ونحن كثيرا ما نقع في خطأ كبير عندما نتذمّر ونستغرق في تفكير عميق باحثين عن مخرج، متذمّرين ناقمين أحيانًا، وننسى أن هذا صليب من الرب، وقد لا يكون هناك سبب سوى أن الله يؤدّبنا وينقّينا ويعدّنا للملكوت، ومن ثَمّ علينا أن نصبر ونفرح ونشكر: «إنْ كُنّا نَتألَّمُ معهُ لكَيْ نتمَجَّدَ أيضًا معهُ» (رومية 8: 17). هذا هو الفرق بين المسيحية وغيرها من جهة التعامل مع الضيقات والآلام، المسيحي له المسيح مرجعية، بل وقد نبّه الرب الجموع مرارًا كثيرة إلى هذا الأمر، حتى أنه أكثر النصائح التي وجّهها في تعاليمه.

والصلبان نوعان: داخلي وخارجي؛ الداخلي هو الحروب والخطايا، وربما الأمراض، وما يعانيه الإنسان على مستواه الشخصي، بينما الخارجي هو الإهانات التي يتعرّض لها، لا سيما كمسيحي.

1- صليب المرض: سواء مرض الشخص طويلاً، أو تعرُّضه لحادث أو عاهة، وربما مرض من حوله أمراضًا مزمنة مثل أحد أفراد الأسرة. وهو صليب ثقيل عندما يطول المرض، ويتخلّله المشاجرات الناتجة عن صغر النفس، أو الإهمال في التمريض، أو التشكُّك في الحب، أو الخسارة المادية، أو ضياع الوقت بسبب التمريض، أو الملل الناتج عن طول المدة.

2- صليب الخسارة المادية بأنواعها: التجارة التي خسرت، البيت الذي هُدِم، الوظيفة التي فُقِدت، لا سيما إذا امتدّ تأثير ذلك لفترة طويلة.

3- ابن عاق أو ُمعاق، أو زوج مشاغب أو منحرف، أو العكس؛ أو سلوك يجلب نوعًا من العار على الشخص، مثل من يطارد الدائنون قريبه ربما اخصائه.

4- السجن والتعيير: لا سيما عندما يرافق ذلك معاناة داخلية بسبب الندم أو الشعور بالظلم، أو مضايقات من حوله، أو القلق على أسرته، ويزداد ذلك ضراوة كلما طالت المدة.

5- الفضائح السياسية أو الأخلاقية: ما هو صحيح منها وما هو كاذب، وفي الحالتين هناك الآلام الناتجة عن الفضيحة، أو شخص ترك المسيح من الأسرة، أو تزوّج زواجًا مخالفًا أو معيبًا، وعلى الأهل والأقارب أن يجترّوا آلامهم.

+ + +
وهكذا لا يوجد شخص لا صليب له، ولا شوكة يتوجّع منها، هذا بالطبع عندما يكون راشدًا يشعر بالمسئولية والألم، ومن هنا يُستثنى من ذلك الأطفال وغير العاقلين أي الذين لا يدركون، ويزداد الألم لا سيما عندما يشعر الشخص بالعجز أمام هذه التجربة أو الآلام، ولكن المسيح تجرّب مثلنا وبالتالي يقدر أن يعين المجرَّبين، وأنه يعطي القدرة على الاحتمال، والمنفذ مع التجربة، ويستخدم الله التجربة والصليب لخلاصنا

بل يفرح الناس بصلبانهم يحملونها برضىً وفرح، بل يطلب القديس بولس أن يكمل نقائص شدائد المسيح في جسده (كولوسي 1: 24)، أي ما يجب أن يتألم به لأجل المسيح، مثلما تألم هو لأجلنا، ولكنه حسب أن آلامه تُعدّ شيئًا يسيرًا بالقياس إلى آلام المسيح. لقد سار المسيح في نفس الطريق، واختبر معنى الظلم والتشهير والإهانة ورفض خاصته له.

هذا يفسّر لنا كيف احتمل الشهداء والمعترفون والقديسون السجن والتعذيب والقتل والاضطهاد، وغيرهم احتملوا الجوع والعري والغربة، ومنهم من كان من الملوك والأمراء، وحملوا الصليب بفرح، واجتازوا هذا العالم، وعيّدوا مع المسيح. وفي ذكصولوجية الصليب نهتف: " السلام لك أيها الصليب عزاء المؤمنين وثبات الشهداء حتى اكملوا عذاباتهم"

+ + +
إذًا فإن التزامات تبعية المسيح هي:

1- إنكار الذات: ليتمجّد الله ويتنقّى الإنسان، ويصبح الله هو المركز.

2- ترك الكل: كل ما نملك، وكل من حولنا، متخلّين عن أمور هذا العالم.

3- حمل الصليب بفرح ووعي: فإن من يحب ذاته لا يمكنه أن يحمل الصليب.



"الصليب هو سلاحنا الصليب هو رجاؤنا الصليب هو

ثباتنا في ضيقاتنا و شدائدنا" (ذكصولوجية الصليب)
منقول