معني الكلام!
زرت قبر الشاعر الإيطالي دانتي اليجيري في مدينة "رافتا" وكان القبر غرفة واحدة. ليست لها نوافذ. وإنما يتزاحم فيها الناس فيكون الهواء فاسداً.. خانقاً.. كريهاً..
كأن الشاعر أراد أن يؤكد لزواره ان زيارة قبره هي المرحلة الأولي من ملحمته الشهيرة "الكوميديا الإلهية" فالمرحلة الأولي: الجحيم، والثانية: المطهر، والثالثة: الفردوس.
وان الناس لايزالون في الجحيم مادموا أحياء.
وحاول كثير من رجال الآثار والسياحة والأدب أن يجعلوا للشاعر العظيم الذي مات في أوائل القرن الرابع عشر مكاناً أجمل وأفسح فكان الرفض قاطعاً، فقد كانت هذه وصية الشاعر الكبير الذي مات فاشلاً في الحب وعاش شاعراً عظيماً، ومن فشله في الحب كانت هذه الملحمة الخالدة التي هي رحلة في العالم الآخر يرويها للفتاة التي أحبها، وفضلت عليه شاباً أصغر سناً وأتفه عقلاً، وهذا هو المصير المشترك لعدد كبير من الشعراء الرومانسيين في كل العصور.
أما أجمل مقبرة لشاعر فهي تلك التي أقامتها إيران في مدينة شيراز للشاعر الصوفي "سعدي مصلح الدين الشيرازي" الذي مات في آخر القرن الثامن عشر. وقد شاء أهل إيران أن يجعلوا هذه المقبرة تجسيداً لديوانه المعروف "بستان الورد" فكانت المقبرة هي هذا البستان.. طويل الطرقات عريض الفسيفساء.. كثير الورود والطيور. جنة الألوان، أما القبر نفسه فهو غرفة مفتوحة في كل الجهات.. ملونة الأحجار والزجاج وفي استطاعتك ان تجلس مستريحاً سعيداً في أي مكان ولديك إحساس وحيد، يكاد يكون أكيداً أن صاحب البستان سوف يجيء لاستقبالك.. وإذا لم يأت فهو موجود في كل وردة وكل عصفورة..
ذهبت إلي هذا البستان، وفي يدي كتاب "بستان الورد".. وجعلت اقرأ حكاياته ونوادره ذات المغزي الأخلاقي الصوفي نثراً وشعراً..
لابد أن حياة هذا الشاعر في نهايتها كانت علي حافة الموت فقد تهيأ تماماً لذلك. فلما جاءه الموت خف للقائه.. فقد عاش سعدي متنقلاً سنوات طويلة ووقع أسيراً في أيدي القوات الصليبية وساهم في بناء حصون طرابلس.. ثم عاد إلي بلاده.. ولزم البيت.. ثم الفراش.. ولما جاءه الموت رفع الغطاء عن جسمه.. ونزل من السرير الذي استقر فيه جامداً منذ سنوات.. وذهل الناس حول فراشه، وسألوه فقال: جاءني الموت فرأيت ان أرحب به..
ونزل من السرير وقطع الغرفة ثم غرفة أخري، ثم فتح الباب وخرج من الباب، ووجد مقعداً أمام الباب.. وجلس معتدلاً.. ثم مات!