"وحيّ من جهة وادي الرؤيا. فما لك أنك صعدت جميعًا على السطوح"




ماذا يقصد بوادي الرؤيا؟


أ. يرى الدارسون اليهود أن هذا اللقب يليق بأورشليم لأنها المدينة التي فيها وهب الله خدامه رؤى واعلانات

ولعل الوحي استخدم هذا اللقب لييقظ فيهم البصيرة التي انطمست.

أورشليم هذه التي سمح الله بحصارها هى مدينته التي أقام فيها هيكله ليعلن ذاته ومملكته وأمجاد سماوته فيها فتكون سرّ بركة للبشرية، لكن فساد شعبها أطمس بصيرتها.


ب. قيل عنها "وادي الرؤيا" مع أن أورشليم لم تُقم على وادي بل على جبال، لكن وجود جبال مرتفعة حولها يجعلها بالنسبة لهذه الجبال أشبه بوادي.

على أي الأحوال لقد أراد الله أن يُقيم من مدينته جبلاً عاليًا ثابتًا لكن فساد شعبها أنزلها لتصير واديًا.

يتساءل البعض: أي حصار يتحدث عنه النبي هنا؟

هل هو الحصار الذي قام به سنحاريب أم حصار آسرحدون في أيام منسي؟ أم هو حصار نبوخذنصَّر أم تيطس؟!



يرى البعض أنه حصار سنحاريب، وإن كان من الجانب الروحي ينطبق على كل حصار سقطت فيه أورشليم، وبالأكثر ينطبق على الحصار الذي يحل بأورشليمنا الداخلية، القلب والفكر والنفس.

الصعود على السطوح لم يكن يتوقع الشعب أن الله الذي يحب مدينته ويعلن عن وجوده خاصة داخل قدس الأقداس حيث يترآى مجده في الشاكيناه (تابوت العهد) يسمح بحصار مدينته بواسطة الوثنين لذا صعودا على السطوح لينظروا بأنفسهم ما حلّ بالمدينة من الخارج.

لعل صعودهم إلى السطح يُشير إلى اهتمامهم بالخارج دون الداخل، وبالمظاهر دون الأعماق؛ عوض الدخول إلى بيت نفوسهم الداخلية لاكتشاف سرّ ضعفهم اهتموا بما هو على السطح. لهذا يوبخهم النبي قائلاً:

"يا ملآنة من الجلبة، المدينة العجاجة، القرية المفتخرة (الفرحة)" [2]. هذه سمات خارجية، إذ صارت أورشليم متمثلة بعواصم البلاد المحيطة بها تفتخر وتفرح بالمظاهر الصاخبة عوض الرجوع الخفي الصامت نحو الله سرّ فخرها وقوتها وبهجتها.

* "قتلاكِ ليس هم قتلى السيفِ ولا موتى الحرب. جميع رؤسائك هربوا معًا، أسروا بالقسى، كل الموجودين بك أسروا معًا. من بعيد فروا. لذلك قلت اقتصروا عني فأبكي بمرارة. لا تلحّوا بتعزيتي عن خراب بنت شعبي" [2-4].

رأى إشعياء ما وصلت إليه مدينة إلهة المحبوبة جدًا إليه فطلب ألا يُعزيه أحد بسبب شدة مرارة نفسه. رأى جيش أورشليم خارجًا في الحقول تحت قيادة رؤساء لم يموتوا بالسيف وإنما بسبب الخوف هربوا فلحق بهم العدو وأسرهم وأذلهم.

"قتلاك ليس هم قتلى السيف"... فقد طعن الشعب نفسه بنفسه بسهام الشهوات النارية، وعزلوا أنفسهم بأنفسهم عن الله مصدر حياتهم، وهكذا سقطت نفوسهم قتلى قبل أن يحل الخراب الخارجي. رأى النبي ما هو أخطر من سنحاريب وجيشه، الاستسلام للخطايا والرجاسات وجحد الإيمان عمليًا. فإن الخطية "طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء، طرق الهاوية بيتها هابطة إلى خدور الموت" (أم 7: 26-27).

لم يكن أمام النبي إلاَّ أن ينسكب بدموع أمام الله؛ هذا ما يفعله كل قائد روحي حكيم يرى شعب الله ينحرف أو نفوسًا تهلك، فيقول مع إرميا النبي: "يا ليت رأسي ماء وعينى ينبوع دموع فأبكي نهارًا وليلاً على قتلى بنت شعبي" (إر 9: 1). رب الأنبياء نفسه "نظر إلى المدينة وبكى عليها" (لو 19: 41).

* لست أنكر أن أورشليم الأولى قد خربت بسبب شر سكانها، لكنني أتساءل: ألا يليق بك البكاء على أورشليمك الروحية؟!

إن أخطأ أحد بعد قبوله أسرار الحق، فإنه يُبكي عليه، لأنه كان من أورشليم ولم يعد بعد...

ليُبك على أورشليمنا، لأنه بسبب الخطية يُحيط بها الأعداء (الأرواح الشريرة) بمترسة ويحاصرونها ولا يتركون فيها حجرًا على حجر.

العلامة أوريجانوس[251]

* بكى (السيد) على أورشليم إذ أراد لها الطوباوية - كما قلت - بقبولها الإيمان به وترحيبها بالسلام مع الله. هذا هو ما دعاهم إليه بإشعياء قائلاً:" لنصنع معه سلامًا" (إش 27: 5 الترجمة السبعينية)... لنصنع سلامًا مع الله بالإيمان.

القديس كيرلس الكبير[252]