منصتون لا متربصون

بقلم د. خالد منتصر - المصرى اليوم

تمنيت فى هذه اللحظة أمنية تنتمى إلى عالم الخيال العلمى، أن أتحول إلى نبضة كهربية داخل خلايا مخ المستشار أحمد رفعت، الذى يتولى محاكمة القرن ويجلس على منصة العدالة المقدسة، التى ينتظر الجميع شرقاً وغرباً منطوق حكمها، ماذا يدور فى مخه الآن؟ بقليل من التأمل ستجيب عن سؤال طالما تبادر إلى ذهنك عن مدى صعوبة مهنة القاضى، إنها أصعب وأشق مهنة فى التاريخ، فالقاضى على أى منصة فى العالم عندما يحكم بالإعدام على سبيل المثال، فهو يقتبس نفحة من الرب لأنه يقرر إنهاء حياة بنى آدم بكلمة وتوقيع، والسؤال: ماذا سيكون إحساس القاضى إذا ثبتت براءة هذا المتهم الذى حكم عليه بالإعدام فيما بعد؟ علينا أن نتخيل كم الإحساس بالذنب الذى سيسكن روح ووجدان هذا القاضى، والعكس صحيح عندما يحكم أى قاض بالبراءة ويطلق سراح قاتل أو سفاح، حينها سيهدر القصاص، وأيضاً لن ينام الليل وسياط الصرخات والدموع تلهب ظهره.

العبء النفسى على القاضى المحترم أحمد رفعت يفوق حدود الخيال، فالرجل يطبق القانون ويوازن بين الأدلة والشهادات والقرائن، ويقوم بعملية استماع وفلترة وبحث وتقص وقراءة نفسية وقانونية لكل عضو دفاع ولكل مرافعة نيابة، ويقول بكل أمانة «مين اللى حينفعنى قدام ربنا يوم الحساب، هل الشارع والرأى العام حينفعونى؟!»، هو يريد الحكم من خلال الأدلة والقرائن فقط، مادمنا قد اخترنا الطريق القانونى فعلينا أن نلتزم بالقانون ونحترمه، وإلا كنا قد ارتضينا أن نعدم ونقتل ونسحل دون محاكمة أو حتى عرض على النيابة كما يفعل البعض الآن من قتل وتقطيع وتعليق على أعمدة الإنارة دون محاكمة أو حتى الذهاب إلى القسم!!

الرأى العام محتقن والشارع أصدر أحكاماً مسبقة ويريد من القاضى أن يكون مجرد ترجمة فورية لما قاله الشارع، يريد منه أن يكون مجرد شريط كاسيت أو ميكروفون يردد صدى كلامهم، وعندما أقول الشارع أقصد الصوت الأعلى فى الشارع وليس كل الشارع، وعندما أقول الرأى العام أقصد الرأى الذى يظهر أكثر فى الفضائيات والذى له علاقات متشابكة مع الإعلام، هذا هو مفهوم الشارع والرأى العام الآن.

ضمير القاضى لا يستمع إلا إلى صوت الحق والقانون، سواء كان الحكم براءة أو مؤبداً أو إعداماً، المهم أن تكون الحيثيات والأسانيد القانونية سليمة وصحيحة، ضغط الرأى العام أو الشارع يتشكل بالأمنيات وبالصوت الأعلى وبالعاطفة الأسخن، أما حكم القاضى فيتشكل بالعقل والقانون والمنطق والعدل، وبالتالى ستسرى هذه القيم فى نسيج المجتمع كله ليعرف معانيها، سيعرف يعنى إيه عدل وقانون.

تشكلت الحضارة عندما نحينا غريزة الثأر الهستيرية جانباً وحولناها إلى قصاص قانونى من خلال مواد ودساتير وصيغ وأحكام، هذا هو التحضر وهذه هى العدالة، وعلينا أن نتقبل كمجتمع بثواره وصامتيه ومتظاهريه وجماعة آسفين يا ريس وجماعة إلى الجحيم يا ريس... إلخ، على الجميع أن يستمعوا إلى المستشار أحمد رفعت منصتين لا متربصين.
منقووول