مغامرة وسط الأصباغ الخطرة تكشف: مصنـع يستخـدم مـواد محظـورة

العامل هو الحلقة الأضعف فى سلسلة صناعات الغزل والنسيج فى مصر، لا الراتب الذى يتقاضاه يكفى لسد الرمق، ولا البيئة التى يعمل فيها تحمى صحته من كيماويات «تهرى جلده» وتسد رئته.. رحلة بحث مجهدة قامت بها «المصرى اليوم» بمنطقة شبرا الخيمة، كان الهدف منها رصد عدد المصابغ الموجودة بهذا الحى الصناعى ومعرفة طبيعة العمل داخل هذه المصانع، وطبيعة المواد المستخدمة فى صباغة المنسوجات.

انتهت الرحلة بخوض مغامرة صحفية داخل أحد مصانع النسيج الكبرى لمدة ثلاثة أيام. رصدت «المصرى اليوم» خلالها بالصوت والصورة ممارسات صحية خطيرة فى عملية صباغة الملابس تنقلها السطور التالية:

اليوم الأول.. رحلة البحث عن مخزن الأصباغ

شاب حديث التخرج يطلب الستر فى وظيفة تدر عليه دخلا بسيطا، هكذا كانت البداية التى قادتنا للمصنع عبر وسيط يعمل فيه، فى السابعة صباحا وقفت «المصرى اليوم» أمام سور صغير تتوسطه بوابة، لا تحمل أى لافتة تدل على هوية المصنع، بمجرد أن تخترق البوابة متجها لداخل المصنع تنفتح عيناك على مساحة شاسعة هى حجم المصنع الحقيقى، المكون من أربعة أقسام هى المصبغة القديمة والجديدة والمعمل ومخزن الألوان.

تكسو القتامة والألوان الباهتة كل ركن فى المصبغة، بما فى ذلك الأجهزة والمعدات والماكينات والأقمشة المتناثرة فى كل جزء، والأرضية التى تكسوها ألوان الصباغة المختلفة.

أمين مخزن المصبغة أكثر العمال تعاملاً مع كرنفال الألوان، لكنه لا يعرف الخطر فى استخدامها بشكل خطأ، «أهم حاجة تصبر وتتحمل وتفتح عنيك كويس» كلمات قالها الأسطى حسن مشرف المصبغة بحماس، ثم أتبع «بص يا محمد أنت هتشتغل هنا بـ٦٠٠ جنيه فى الشهر والشغل من الساعة سبعة صباحا لسبعة بالليل وليك وجبة أكل واحدة فى اليوم عبارة عن رغيف عيش وقطعة جبنة نستو».

اندمجت فى حمل أثواب الأقمشة الخام ونقلها لأجهزة الصباغة الآلية وجلب جميع مكونات عملية الصباغة من «جوالات» الملح الصناعى والألوان، والوقوف على معدات الصباغة لمساعدة «أسطى» الماكينة فى تشغيلها، فى نهاية اليوم، كان العمال يغسلون أطرافهم التى لونتها الأصباغ ويغادرون المصنع فى مهل.

اليوم الثانى.. فحص الأصباغ ومعرفة هويتها.

بعد يوم موفق فى المصنع، اجتمعت والزميل على زلط، وأصبحت مهمتى فى اليوم الثانى أكثر مخاطرة، وتتلخص فى البحث عن هوية الأصباغ التى يستخدمها المصنع، وأن أعرف أسماءها وألتقط صورا للكراتين التى تحوى كل صبغة لمعرفة هويتها ومن أى دولة تم استيرادها ومحاولة الحصول على عينات منها إن أمكن.

فى تمام السابعة كعادتى كنت أمام بوابة المصنع وأحمل داخل أمتعتى كاميرا صغيرة لتصوير الفيديو قمت بإخفائها فى أحد الأحذية البلاستيكية التى اشتريتها لأرتديها حتى أحافظ على رجلى من آثار الألوان المتناثرة فى كل مكان بالمصبغة، وخلال ساعات العمل بدأت أتسلل للمخزن دون أن ينتبه يوسف، كنت ألتقط صوراً لكراتين الصباغة وماركاتها، ولاحظت أن كل الأصباغ مستوردة من الصين أو دول جنوب شرق آسيا، وغير موضح عليها بيانات المكونات، ولا تحمل شهادات خلو من المواد الكيميائية الضارة، ولفت انتباهى إحدى حاويات المواد مكتوب عليها «فورمالدهايد» وهو مركب كيميائى ضار جدا بالصحة، كما يوجد العديد من الكراتين مجهولة الهوية، احتفظت ببعض أجزائها ومحتوياتها وقمت بتصويرها.

«مين اللى جوه؟» صيحة أطلقها عم يوسف المسؤول عن مخازن الأصباغ، وأنا أقوم بتصوير بعض الأصناف داخل المخزن، فارتبكت قليلا لكنى استعدت توازنى فى الحديث عندما سألنى قائلا «إنت بتعمل إيه؟» فأجبته: «كنت ألعب فى التليفون وأريد أن أدردش معاك شوية تعرفنى على الصبغة وأنواعها عشان أتعلم بسرعة وأفهم النظام»، وجلست معه لأبادله الحديث وحكى لى مسهبا الكلام بصوته الضعيف وكلامه السريع، شارحا بعض تفاصيل صناعة الصباغة وأنواعها وكان يبدو من حديثه أنه لا يعلم أضرار هذه الصباغة ومخاطرها على صحة الإنسان.

فى هذا اليوم كان يبدو على عم يوسف التعب، وفى أثناء حديثه توقف فجأة عن الكلام وهو يمسك ببطنه ويقول «أنا تعبان النهاردة خالص» وقام مسرعا نحو الحمام وهو ممسك ببطنه وأراد أن يتقيأ، وبدا عليه الألم الشديد واصفر وجهه وظل ١٠ دقائق يقف على أحد مراحيض الحمام يتقيأ وكاد يسقط على الأرض، لولا أن ساندته حتى ليجلس على كرسيه الخشبى بالمخزن، وبعد أن هدأت حالته بدأت أسأله عن حالته الصحية فأجابنى «أول ما بدأت الشغل فى المصنع لم أكن هكذا» وكانت صحتى بمب وكنت أشيل وأعتق، لكنى تعبت ويأتينى دور الترجيع هذا كل شهر بكحة شديدة.. وربنا يستر علينا من شغلانة المخزن».

ومضى يوسف فى القول: «كلما يأتى شخص جديد يشتغل فى المخزن لا يقدر أن يكمل ويمشى، وأنا من سنين شغال هنا وأحاول أتحمل، وكان فيه اتنين قبلى شغالين، واحد جاله مرض مش عارف يقوم منه والثانى مات، وكثير من العمال تعبانين وعندهم مشاكل فى صدورهم».

التقطت طرف الحديث من عم يوسف عن مرض العمال، وبدأت أتجول فى المصنع متحدثا مع بعضهم واكتشفت أن هناك انتشاراً لأمراض الصدر والحساسية يعانى منها بعضهم لكنهم لا يهتمون بزيارة الطبيب حتى لا يحتسب ذلك اليوم غيابا من المصنع يترجم فى صورة نقص فى الراتب، على حد قول أحد العاملين.

فى نهاية كل يوم لابد أن يتعرض جميع العاملين بالمصنع لعملية «التفتيش» عند بوابة الخروج، تحسبا من إدارة المصنع لسرقة أى من العاملين أثواب قماش أثناء مغادرتهم العمل، الأمر الذى ظهرت معه مشكلة كبرى لى، وهى كيف أخرج بالكاميرا التى اصطحبتها معى حتى لا يكتشف أمرى، وبعد تفكير توصلت لطريقة لإخفاء هذه المتعلقات بداخل حذائى البلاستيكى وخرجت من المصنع بعد أن فتشنى المكلفين بذلك من العاملين ولم يتوصلوا لشىء.

اليوم الثالث... البحث وراء أسباب مرض عم يوسف

ذهبت للمصنع فى اليوم الأخير لمصارحة عم يوسف عامل مخزن الأصباغ بمهمتى ودعوته ليخضع لعملية فحص طبى لتوصيف وعلاج حالته لأنه كان يبدو عليه آثار المرض.

اقتنع عم يوسف بالفكرة، خصوصا أن علاجه سيكون مجانا – لتحمل الجريدة ثمن الكشف والعلاج - ولن يتكلف شيئا، وعرضنا حالته على د.أمل السفطى، رئيس قسم الأمراض المهنية وطب الصناعات بمستشفى قصر العينى. خضع عامل المخزن لمجموعة من الفحوصات الطبية وجاء تقرير الطبيبة المعالجة يؤكد أنه يعانى من حكة فى الجلد والأيدى والأرجل المعرضة مباشرة للصبغات، كما أنه يعانى من صعوبة فى التنفس ويتعرض لأزمات صدرية بسبب التعرض لغبار ألوان الصباغة خلال الأيام الأسبوعية، وتتحسن حالته فى أيام العطلة. وأكدت د. أمل السفطى أن سبب هذه الأعراض نتيجة عدم استخدام وسائل الحماية الشخصية أثناء العمل بالمصنع، وهى الكمامات والقفاز والأحذية المطاطية والتى تقى من التعرض المباشر لهذه الأصباغ. أضافت أن تعرض العاملين المباشر لمواد الصباغة تجعلهم مهددين بالإصابة ببعض الأمراض الخطيرة لتسلل المعادن الثقيلة لدمهم قد تصل للإصابة بالسرطان.

كان عم يوسف أكثر قدرة على التحمل من آخرين، لكن المغامرة كشفت عن حجم الضرر الواقع على العمال فى شركات الصباغة الذين لا يعلمون شيئا عن خطورة المواد السامة التى يتعرضون لها كل يوم، ولا أنها تؤثر على الصحة العامة للمستهلكين فى حال عدم استخدام الصبغات بالضوابط التى تقرها المواصفات الدولية لهذا النوع من الصناعة الخطرة.


المصرى اليوم





ضع تعليقك هنا

اخبرنا عن هذا الرد اذا سيء