ومازالت السموات مفتوحة لأعين كثير من البشر ....

كان رجلاً عادياً, ليس من المتدينين المترددين على الكنيسة , وفى اعترافاته لم يكن يعرف معنى التوبة, فكان كثير الخطأ والسقوط , لكنه كان طيب القلب جداً ورقيق المشاعر إلى أبعد الحدود , تجول بحكم وظيفته كمدرس حتى استقر ف الحال بعدما تزوج وأنجب الاولاد فى إحدى مدن الصعيد المطلة على النيل لذلك اعتاد كثيرا ان يركب مركبا فى النيل هو واولاده وبعض الاصدقاء .

وفى إحدى المرات , أثناء أجازة نصف السنة , ركب المركب كعادته وكان معه ابنه الوحيد , بينما زوجته وبناته فضلن الإنتظار ف المنزل .
اكتظ المركب الصغير بالشبان , صار فى عرض النيل , فجأة اندفع الشبان فى لهوهم وتهريجهم إلى جانب واحد , اختل التوازن فانقلبت المركب بالجميع .
صرخ الرجل من عمق قلبه صرخة عميقة إلى الله , لانه لم يكن يعرف العوم ,ولا ابنه ايضا . لم يصرخ إلى الله ف حياته كلها مثل هذه الصرخة. بعدها
أحس بيدين حانيتين تحملانه . شعر بهما فعلاً وبطريقة حسية كاملة . حملته اليدان إلى الشاطىء وهو يحتضن وحيده . لم ينج من الموت يومئذ سوى هذا الشخص وولده وكانت البداية !


بداية حياة جديدة ... صلوات لم يذق طعمها من قبل .. عزوف كامل عن زخارف العالم الكاذب واحتقار لكل أباطيله ... انفتح أمامه مجال أسمى بما لا يقاس . فحول الايام كرصيد له ف السماء .


وكذبيحة شكر لله , نذر صوما للتوبة والرجوع إلى الله , فلا يفطر إلا بعد رجوعه من عمله بعد الظهر وبعد أن يصلى صلاة الساعة التاسعة ثم يستريح قليلا , بعدها يدخل حجرة مكتبه وقد خصصها للصلاة , ويظل شاخصا إلى السماء يصلى من اعماقه , ويتمتع بالمزامير والتسابيح ويعكف على كتابه المقدس يأكل من مشتهياته ويتتلمذ عند قدمى قدسيه , وحرارته الروحية تزداد يوماً بعد يوم لكن فى اتزان كامل .
وفى ليلة من ليالى الصلاه هذه , وبينما هو شاخص إلى السماء ,إذا بسقف الحجرة وكأنه غير موجود ,وإذا السماوات مفتوحة !!!

انذهل عقل الرجل من فرط الحب الإلهى , وتثقل بمشاعر الاتضاع وعدم الاستحقاق .. لقد كشف الرب بصيرته ليرى ما لا يرى .. وقد احتفظ الرجل بهذه الامور فى قلبه لم يبح بها لإنسان على وجه الأرض .

منذ حادث المركب , والرجل يذهب إلى الكنيسة بانتظام , مواظباً على القداسات والعشيات والاجتماعات , هادئاً وديعاً.
صار القداس الالهى هو اشهى ماله على الارض , تنحدر أثناءه دموعه كالنهر , وهو واقف بجوار الهيكل , بعد ان كان القداس مملاً وثقيلاً على نفسه , ولم يكن يطيق البقاء فى الكنيسة .
فى أحد القداسات , وبينما الكاهن يصلى مجمع الآباء , وإذ بالرجل يرى أولئك الآباء القدسين يملأون الهيكل واحدا فواحدا .
وكلما ذكر الكاهن إسماً , ظهر هذا القديس لينضم إلى خورس النورانيين !
بعد مرور السنين , شهد الجميع ان الرجل صار مثلا للحياة المسيحية وتجسدا للوصايا الانجيلية .. حلوا مع الجميع .. خادما وباذلا نفسه للجميع .
وكان كلما إزداد الرجل بهاءاً وقداسة , كلما إزداد عليه حنق إبليس الذى يجول كأسد زائر ملتمساً من يبتلعه , خصوصاً ان الرجل , رغم قداسته واعلانات الله له , لم يكن محنكاً فى الحروب الروحية , ولا هو متتلمذ على أب حكيم او مدبر ذى بصيرة.
بدأت الحرب بشكوى الجسد : أعراض مرض , وضعف الجسد واحتياجه للراحة والغذاء , فتور فى الصلاة .. خطوات واضحة فى طريق الكسل !
ابتدأ العالم ينساب قليلا قليلا إلى داخل حياته , ودارت الايام دورتها , وغرقت سفينة الحياة الجديدة , ونجح إبليس فى حيلته وعاد الرجل إلى سيرته الاولى !!
كان يفيق بين الحين والاخر , يتذكر مجد التوبة والحياة مع الله فيجمع أشلاءه وينتصب للصلاة .. كلمات فاترة, صلاة بلا طعم ولا تأثير .. حضور القداس بلا اشتياق .. قراءة الانجيل صارت واجبا ثقيلا .. كان يتأسف فى قلبه ويندم ويتحسر على أيام زمان , لكن رويداً رويداً تلاشى الندم ومات الضمير . رجع إلى أصدقاء الشر ورجعت إليه سقطاته القديمة.

ترى .. هل من رجوع ؟
هل يترك الله أولاده ؟ ألا ينقذهم من فم الاسد ؟ ألا ينتشلهم ليقودهم فى موكب نصرته كل حين بالمسيح يسوع ؟
بلى , ينقذهم وينتشلهم .. فقد عادت النعمة تفتقد هذا الانسان البائس , وقد ناهز الستين من عمره .
تقدم إلى الله بنفس منكسرة , يطلب الرجوع والقبول , بدأت الحياة تجرى فى مجراها . وبدأ السعى فى طريق الابدية , جاءنى الرجل وجلس إلى جوارى , شيخ وقور , يعترف . وابتدأ ف الكلام ودموعه تنساب فى غزارة لم أرى مثلها .

قال : الآن علمت ان الرب صالح وطيب وقابل للخطاة وتحققت انه مهما كثرت خطايانا , فدم يسوع المسيح يطهرمن كل خطية , وحيث كثرت خطايانا ازدادت النعمة جدا . لقد ظننت انه لا رجوع لى إلى رتبتى الاولى وايام توبتى الاولى , ولكن ما لا استحقه بعد كثرة خطاياى أعادته النعمة لى .

قلت له : كيف كان ذلك ؟
قال : دخلت الكنيسة بالامس , وكان قد انقطع عهدى بالمناظر الإلهية والاعلانات , لكثرة خطاياى وفتورى , وظننت انه لا عودة إلى قامتى ومقامى الاول . ولكن للعجب الشديد انفتحت بصيرتى مرة أخرى , ورأيت الهيكل وقد أمتلأ بأرواح القدسين والملائكة فى ساعة التقديس , فعادت نفسى إلى مسكنتها الأولى واتضاعها وفرحها , وتأكدت أن الله يوازن كثرة خطايانا بغزارة محبته , وأن باب التوبة مفتوح أمام أشر الخطاة .
وقد جمل الرب حياة هذا الرجل بالآلام فى ختام أيامه , فكان يتزكى قدام الرب كل يوم , فى صبر وشكر ورضى وتسبيح لا ينقطع . إلى أن إنضم إلى مصاف النوارنين لينعم بكمال العربون الذى ذاقه وهو بعد ف الجسد .
عن كتاب " رائحة المسيح "
للقمص لوقا سيداروس