الأنبا انطونيوس 251م ـ 356 م
انطونيوس معناه فى اللاتينية : عوض

قرية قمر العروس

هى القرية التى نشأ فيها القديس العظيم الأنبا انطونيوس أب الرهبان وتبعد 10 كم جنوب مدينة الواسطى ثم نأخذ الطريق الغربى بعد الكوبرى مباشرة حتى القريه . وتوجد الأعمده الباقيه من الكنيسة الأثرية بجوار الجامع الأثرى الوحيد بالقريه التى يعتقد أهلها حتى الآن أن هذا جامع قد بنى فوق قصر ملك يدعونه انطونيوس .

البابا أثناسيوس يفتخر لأنه حمل الماء للأنبا أنطونيوس
كتب البابا أثناسيوس الرسولى البطريرك الـ 20 سيرة الأنبا انطونيوس وأنتشر قصته فى العالم الغربى وكانت النتيجة أن بدا الغرب النظام الرهبانى نقلاً عن رهبان مصر , وكان البطريرك المصرى يفتخر بكونه عرف القديس أنطونيوس منذ حداثته , وأنه كان يستقى له الماء مراراً كثيرة ( أى يحمل له الماء من البئر إلى قلايته ) وقال عن الأنبا أنطونيوس ما خلاصته (1) : "

ولد القديس الأنبا انطونيوس أب الرهبان فى سنة 251 م فى مدينة أسمها كوما (2) من والدين مسيحيين أشتهرا بالغنى والمال والفضيلة فربياه تربية مسيحية على فعل البر والتقوى , وكان من طبيعته محباً للعزلة والأنفراد يقنع بالشئ البسيط من متطلبات المعيشة , ومع أن والدية لم ينظماه فى سلك التعليم بإحدى المدارس إلا أنهما هذباه بعلومهما ومعارفهما كما تدل كتابات القديس أنطونيوس الباقية إلى ألان التى تدل على مقدرته وتشهد له بالتضلع .

سمع صوت المسيح أثناء قراءة الأنجيل / أذهب وبع كل ما لك

وعندما بلغ الثامنة عشرة حتى فقد أبويه فإلتزم بتربية أخته الصغيرة ويدير حركة أملاكه الواسعة التى تركها له أبويه وكان ينفق منها كثيراً لأغاثة البائسين , وكانت الأفكار المقدسة متملكة عليه كثيراً , وكان معجب من شهادة ألاباء الرسل الذين تركوا كل شئ وتجندوا لخدمة الكلمة , وكيف كان كل مؤمن بواسطتهم يبيع املاكه ويضع ثمنها تحت أقدامهم , وأتفق ذات يوم أنه ذهب إلى الكنيسة كعادته هو وأخته وهذه الأفكار تشغل خاطره , وإذا كان فى الكنيسة يوما وإذا بفصل الأنجيل يقرأ فسمع السيد المسيح يقول لأحد الشبان اليهود الأغنياء : " إن أردت أن تكون كاملاً فإذهب وبع كل املاكك ولأعط للفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعال أتبعنى " ( مت 19 : 11) فحالما سمع هذه العبارة حسبها صوتاً إلهياً ينادبه من السماء فرضخ لهذه المشورة وقرر تنفيذها فقام وباع كل ماله 3000 فدان من أجود الأراضى وترك جزءاً لأخته , وفى اليوم التالى سمع قول الرب فى الكنيسة يقول لا تهتموا بالغد دع الغد يهتم بما لنفسه , وعندما عاد إلى منزلة قرر أن ينفذ ما سمعه فأعطى أخته نصيبها ثم توجه بها إلى دور العذارى التى كانت فى عصره , وعاش فى منزل تظلله جميزة (3) ولما لم يكن له مال على كد يديه بالعمل فقد كان يصنع قففاً وحصراً ويقتات بثمنها , وفى نفس الوقت كان يتقدم فى الفضائل ويروض جسده على طاعة روحه فى عيشة من الزهد والتقوى فكان ينموا فى القداسة يوماً بعد يوم .

بداية معرفة الطريق
ولم تكن الأديرة معروفة فى عصره بل كان الأتقياء الهائمون بحي العزلة والفقر الأختيارى يجتهدون حسب طاقتهم فى الأنفراد عن العالم والأبتعاد عن معاشرة الناس حباً فى العبادة والنسك والتلذذ بالروحيات , وكانوا يتخذون لأنفسهم مغائر وكهوف لا تبعد كثيراً عن المدن والقرى , وهناك ينعكفون على العبادة , فإجتمع حول أنطونيوس بعض من هؤلاء , فكان يمر عليهم ويخدمهم ويتعلم منهم الفضائئل التى أكتسبوها , فكان كالنحلة التى تجمع شهدها من أزهار متنوعة , فجمع الكثير من الفضائل من هؤلاء فمن واحد الصبر ومن آخر الأتضاع ومن غيره الصمت ومن رابع الطاعة .. ألخ حتى وصل إلى درجة عليا فى سلم الفضائل وشابه المتعبدين فى مغارة واحدة , وكان يقلدهم فى العبادة , وأتخذ منهم شيخاً معلما له , وكانت له ذاكره قوية فكان كلما يقرأ الكتاب المقدس يحفظ أجزاء كبيرة منه حتى ولو قرءه مرة واحدة , وكان يحفظ جميع من عرفهم ويعاملهم بمحبة شديدة حتى أعجب به المتوحدون فكانوا يجلون قدره ويقفون عند قدومه ويحيونه قائلين : " تعال يا حبيب الرب "

ثم عبر النهر إلى الناحية الشرقية, وهناك وجد جميزة كبيرة فسكن هناك ولازم النسك العظيم والعبادة وشغل اليد حتى جاءت إمرأة تستحم في النيل بالقرب من مكانه , فلما انتهرها بادرته قائلة: " لماذا تنظر إلى أنت مخلوق من تراب أنت يجب أن تنظر إلى المادة التى صنعت منها ؟ , إن هذا المكان لا يصلح لسكن الرهبان ولو كنت راهباً لسكنت البرية الداخلية "

غير أن الشيطان عدو الخير لم يرق له ان يرى شاباً كهذا متمسكاً بمحبة الرب يسوع فجمع كل جنوده الشريرة وقام بالهجوم عليه بسهام الندم والأغراء والتهديد والوعيد , فراودته الأفكار الرديئة , فكان مرة يدفعه ليأسف على توزيع ثروته ويقول له , كان يمكنك أن تبيعها وتتصرف أحسن مما تصرفت , فكان يمكنك توزيع دخلها على الفقراء وتعيش أيضاً فى خوف الرب ورضاه وكنت ستعول عائلات فقيرة كثيرة , وكان يهاجم بمسؤوليته على أخته : فيذكر له أنه الوحيد الذى يجب عليه رعايتها فكيف يتركها هكذا بلا عناية فى العالم , وتاره يصعب عليه مشقات طريق التعب والوحدة والأنفراد عن العالم , وفوق كل هذه الحروب كان يملأ مخيلته من ألأشباح والصور الجميلة التى تسوقه إلى الفساد أملاً فى أن يخلب لبه فيسقطة فى الخطيئة ويثنيه عن عزمه فيتغلب عليه ,وقد انهك هذا القتال الذى لا هوادة فيه ليل نهار القوى الجسدية لديه حتى كان ذات يوم أنه لم يستطع أن يقف ولا حتى أن يجلس بل ظل مستلقياً على الأرض فى شبه إغمائة بينما إنتهز الشرير هذه الفرصة فى مهاجمته فى قسوة (4) ليحطم معنوياته , فقال أنطونى : " أننى هنا أنا أنطونى .. ولن أنحنى تحت ضرباتك مهما قسوت فيها , لأننى لن أسمح لشئ فى الوجود أن يفصلنى عن محبة المسيح ربى وإلهى " وأحياناً كان يحاربه بالكسل والخمول فيتراخى عن حميته فيترك الطريق يوما بعد يوم .. وعندما عجز بهذه الطرق أتهاه بالكبرياء بالفخر والتباهى موسوساً له فى فكر : أنه أصبح افضل الناس قداسة وبر وفضيلة .. فمن من الناس وصل إلى ما وصلت له يا انطونيوس ؟ ..

ولكن كان الشاب أنطونيوس يتسلح بكلام الرب يسوع ووعده وإن كان الرب يسوع يعد فوعده أمين وصادق , فكان يرد جميع سهام الشرير الملتهبة بالزيادة فى معرفة كلمات الرب والنسك فتفانى فى قمع جسده وتذليله فتدرج فى الإنقطاع عن الأكل حتى أصبح يصوم يوماً كاملاً ويأكل مرة واحده بالليل , حتى وصل إلى الصيام الإنقطاعى ثلاثة ايام , وكان يلبس المسح ويرقد على الأرض أو على حصير,وهكذا كانت الحرب شديده فكان يطرد أفكار الشرير بالصوم والصلاة .

الحروب الشيطانية
وفى أحد الأيام بينما كان سائراً تعثرت قدماه وسقط فى بئر وعثر على كنوز مصرية فى قبر لقدماء المصريين فظن فى بادئ الأمر أنها خيالات أو صور شكلها له الشيطان ولما تحقق من مناظر الذهب على الكفن الفرعونى أيقن أنها تجربة أخرى لكى يسهل له الشيطان طريق الرجوع إلى العالم بعد أن أضناه تعب النسك والزهد وقال فى نفسه هذا معدن من تراب أتفرح بالتراب يا انطونيوس !!! ماذا سينفعك التراب فى الصحراء ممن تبيع وممن تشترى ؟ لقد بعت العالم لتربح المسيح , وفى الحال تسلق إلى أعلى المدفن وفر هارباً من هذا المكان وقصد مكان آخر , وعقد العزم أن ينسى ما حدث .

ولجأ إلى أحدى المقابر الفارغة التى كان القدماء يعتنى بتشييدها وبها حجرات تصلح للسكن والتى لا تبعد عن منطقة الميمون (5) ومن هناك كان يرسل أحد أصحابه بما يصنعه من سلال ليبيعها ويحضر بثمنها ما يحتاجه من قوت وكان معظم طعامه الخبز والملح مع الماء , ويروى أنه عاش عمره كله لم يتناول لحماً أو يشرب خمراً .

وشاع خبر قداسته وأنتشر خبر تقواه فى ارجاء أرض مصر فأتجه له الناس كل له كلب البعض يريد الشفاء من أمراضهم , والبعض لسماع تعاليمه السامية , أما هو فلم يكن يريد الخروج من قصرة ويضيع وقتا بدون الصلاة والبعد عن الرب يسوع , ولكنهم أستمروا يطلبونه حتى كثر الناس الجالسين عند بابه وهو مغلق حتى كادوا يكسرون عليه الباب , ويقول الب متى المسكين عن هذه المرحلة : " وأستمر أنطونيوس عشرين سنة فى بسبير , وفى هذه المدة إلتجأ إليه جمع كثير من احبائه ومريدية وسكنوا حوله , وعاشوا عيشته , متمثلين بنسكه , أما هو فلم يلتفت إليهم ولم يهتم بوجودهم , بل ظل فى عزلته الشديدة وحياته البسيطة , دون أن يشعر فى ذاته أو يشعر أحداً أنه صار أباً أو مسئولاً عن أحد (6) ولما بلغ الضيق بمريدية مبلغاً صعباً بسبب تجاهلة إياهم 20 سنة , أقتحموا بابه عنوة وأجبروه أن يخرج إليهم , أما هو فبوداعته الشديدة رضى بعنفهم وقبل أقتحامهم وأذعن لمطلبهم , ولشدة لجاجتهم عندما وجدهم كقطيع غنم يحتاج لرعايته فبدأ يفتح الباب أحياناً ليصلى على المرضى ويلقى العظات على المسترشدين الذين كانوا يبغون سماع نصائحة الروحية , فتتلمذ له منهم كثيرون فقبلهم وبدأ يسن لهم قوانيين وأشتاق الكثيرون من الأقباط لحياة الرهبنه التى بدأ فى تكوينها الأنبا أنطونيوس فتجمع حوله المئات من المسيحيين ليس لهم هدف إلا تنمية علاقتهم مع الرب يسوع , وبدأوا يزدادون حول القصر ( الحصن) يوما بعد يوم وذلك فى سنة 305 م فوضع لهم الوانين , ولم يكن يظهر لهم إلا فى النادر إلى أن مضى نحو عشرين سنة وفى نهايتها أضطر للخروج للذين أرادوا السير على منواله .

وعندما بلغ الأنبا أنطونيوس من العمر الخمسة والخمسين , أمتلأت البقاع والبرارى الموجودة حوله من الشباب الذين جذبهم منطق قداسته وفضائلة وعاشوا فى عزلة , وكان منهم الأعنياء والفقراء , ولم يمضى وقت قصير حتى قامت الأديرة بجوار ممفيس وأرسينوى وبابليون وأفروديت وأماكن كثيرة , وأمتلأت من الرهبان الذين عاشوا تحت إشراف وتدبير القديس أنطونيوس الذى كان ينتقل من مكان إلى مكان آخر مرشداً وواعظاً

ولبث القديس أنطونيوس يعيش بين الرهبان الذين تجمعوا حولة فى تواضع وحب كملاك أرضى يحبب لهم الفضيلة بسيرته وقداسته يقلدونه وكان هذا أول جماعة رهبانية فى العالم كله

الأنبا انطونيوس فى الفكر الغربى
وقد وصف مؤرخ غربى (7) فترة نضالة مع نفسه ضد قوى الشر وعلاقتة بمن ألتفوا حوله فى هذه الفترة فقال : " لقد تعرض القديس وهو فى خلوته الأولى لتلك المحاربات الشيطانية التى جعلت من حياته موضع السخرية للمتشككين , والشفقة للمتساهلين , والدهشة للمؤمنين المتيقنين , من وجود عدو يزأر كالأسد (1بط 5: Cool من قوة غير منظورة تنصر الكنيسة بلا أنقطاع , ومن يتشكك فى هذه المحاربات إنما ينكر كل حادث خارق للطبيعة ويزدرى بشهادة عدد كبير من الناس الذى لا يتطرق الشك إلى قداستهم , ولسنا هنا نحاول الدفاع عن هذه المحاربات الخارقة ولكن الذى لا يمكن الشك فيه مطلقاً هو أن العيشة التى قضاها أنطونى ورهبانه المصريين هى أنكار الذات والتحكم فى كل الغرائز والميول الطبيعية , وهذه الحياة الخارقة للطبيعة التى عاشها هؤلاء الرهبان فى خطر مستديم , وفى جوع وألم , هى أعجب ما عرفه الأنسان , وهم كانوا يتحملون كل هذه الضيقات والمخاطر من غير ان يمتدحهم أنسان , أى أنهم لم يطلبوا مجداً من الناس لأنهم عاشوا فى معزل من الناس , ومثل هذه الحياة التى يعترف بها الجميع بأن الرهبان المصريين قد عاشوها هى أعجب وأغرب بكثير من القصص التى يرويها الثقاة عن المحاربات التى خاضها الأنبا أنطونى "

الرهبنة الأنطونية ناتجة عن رؤيا إلهية :
وشعر القديس فى بداية رهبنته وإذ الملل قد تسرب إلى نفسه والضيق يحاصرة , فضاعف صلاتة طالباً الإرشاد الإلهى قائلاً : " يا سيدى أريد الن اكون كاملاً ولكن أفكارى تمنعنى " حينئذ سمع صوتاً يقول له : " أخرج خارجاً وأنظر " فخرج وإذ يرى ملاك الرب مرتدياً الإسكيم (Cool وعلى رأسه طاقية وهو منشغل بتضفير الخوص ( الخوص هو فروع جديدة فى قلب النخل كان يصنع منها القفف وأشياء أخرى ) ووقف أنطونى مندهشاً لهذا المنظر الذى يراه ووقف يراقبه , ورأه يضفر قليلاً ثم يترك عمله اليدوى ليصلى , وبعدها يضفر ثانية ثم يقوم للصلاة , ثم يترك الصلاة للشغل , وأستمر الملاك يعمل ويصلى بالتتالى , ثم سمع أنطونى صوتاً يقول له : " أفعل هذا فتجد راحة فى نفسك " فأطاع القديس هذا ألأمر السمائى طيلة حياته , وبعد الملل عن نفسه , وجعلها قاعدة عامة سار عليها الرهبان المصريين حتى يومنا هذا .

الأنبا أنطونيوس يترك صومعتة لتشجيع الأقباط أيام الأضطهاد
وحدث أن أرمانيوس والي الإسكندرية (المعاصر لأريانوس والي أنصنا) أرسله -أي القديس أبيما البهنساوي- إلى الصعيد لكي يُعَذَّب ويموت, فأركبوه المركب وتوجهوا به إلى الصعيد, ولما وصلوا إلى قرية الميمون غربي النيل توقفت المركب عن السير لمدة 3 أيام لعدم هبوب الريح , وانتهز القائد المرافق للقديس أبيما هذه الفرصة فخرج إلى القرية وأمر أهلها بالسجود لأبوللو كبير الآلهة فرفضوا وتمسكوا بالمسيحية, فاستشهد منهم خمسة شهداء في اليوم الثامن من شهر أبيب وهذه أسماؤهم (9) :
1- أبا سرابامون قس الميمون (وكان اسمها وقتئذ فووه انيامرو).
2- أوريون قس بيدجرم انتي كيمين (كفر ابجيج - مركز الواسطى).
3- أبيون عمدة كيمين (قمن العروس بمركز الواسطى).
4- أوديمون من أهل فوويت (ناحية أفوه - مركز الواسطى).
5- بيتسيري من تيلوج (ناحية دالاص بمركز بوش).
وكان استشهادهم هو السبب الرئيسي لخروج القديس الأنبا أنطونيوس من صومعته بدير الميمون شرقي النيل والقريبة من مكان استشهادهم , وفى سنة 311 م ذهب إلى الإسكندرية عندما سمع عن نار الأضطهاد الشديد الذى أضرمه مكسيميان قيصر كما حث رهبانه على الذهاب إلى الثغر للمشاركة في تثبيت المؤمنين وتشجيع المسجونين ويشجعهم على بذل الدم من أجل فاديهم القدوس , وكان يشترك معهم فى الترتيل والصلاة أثناء ذهابهم إلى الأستشهاد , فتحولت السجون إلى كنائس والطريق إلى الأستشهاد أصبح هو الطريق إلى الملكوت الذى يقصر فيه أيام العالم وتنتهى رحلة الحياة القصيرة لتبدأ الحياة الأخرى الأبدية فالعالم سيزول وتنتهى أيامه وستبطل جميع امجاده , وكان دائم التعليم ومشجعاً بالكلام الروحى وكان هو نفسه يشتاق لنيل إكليل الاستشهاد, فكان يتوجه بجرأة شديدة إلى المحاكم ويحضر جلساتها ويقوم ويحامى عن المسيحيين المقبوض عليهم بجسارة قلب ويفند دعاوى وأتهامات أعدائهم , ولما كانت الغاية من الإضطهاد ليس هلاك جميع المسيحيين ولكن دفعهم لنكران السيد المسيح مخلص البشرية , فكان يطلب الإنفراد بالمتهمين ويثبت لهم إيمانهم ويصف لهم السعادة الأبدية التى تنتظرهم والتى أعدها الرب يسوع ذاته لجميع الصابرين على الضيقات .

وعلم الحاكم المضطهد حينئذ أن الرهبان لهم يد فى تشجيع المسيحيين فى مدينة السكندرية على قبول الموت , أمر بمنعهم من تواجدهم فى المحاكم .. أما القديس أنطونيوس فعزم على على متابعة تشجيعة للمسيحيين ولو أدى عمله هذا على أستشهاده فلبس ثوباً أبيض وأعتلى رابية كانت فى الطريق الذى يمر منه الحاكم , وظل يصلى إلى الرب بصوت عالى أثناء مرور الحاكم , وعندما شاهده الحاكم منظر الأنبا أنطونيوس بملابسه البيضاء ويطالب الرب بأن يستشهد على أسمه وهالته شجاعته ونظر إليه نظرة جندى يحترم شجاعة وشهامة خصمه لأنه لا يهاب الموت , فأوقف الأضطهادات ووجدها لا فائدة فى أثناء المسيحيين عن عبادتهم لإلههم , وعندما هدأت الأضطهادات عاد القديس إلى ديره وأستأنف عبادته بجد ونشاط كأنه يعرف الرب لأول مرة .

وهكذا حفظة الرب يسوع حتى يؤسس طريق الرهبنة الملائكي.

وكان يحب الإمتلاء والتأمل فى بهاء وعظمة الحضرة الإلهية وأعتاد أن يصرف الليل مصلياً راكعا غير متحرك , وكان يحب الصلاة فى الليل حيث يسكن الكون من حوله وعندما يبدأ فى مناجاة الرب يسوع تكون الشمس تغرب من ورائه وعندما يرى الشمس تشرق أمامه فى اليوم التالى يشكر الرب قائلاً : " أيتها الشمس لماذا تعدمينى بنورك أشعة النور الإلهى " لأنه توقف عن الصلاة .

وعندما بلغ من العمر 35 سنة أخذ يتوغل قليلاً قليلاً في البرية الداخلية إلى ناحية الشرق ورغب أن يصحب معه شيخه ومرشده فلما عرض عليه الأمر أعتذر لكبر سنه فتركه وتوجه إلى القفر وتعمق فى البرية وهو لا يدرى أين يلقى عصاه حتى عثر على قصر قديم عظيم البناية بنته أيدى ملوك مصر الفراعنة منذ زمن مديد كحصن لصد هجوم الأعداء وجعلوه كنقطه من النقط العسكرية , فأصلح القديس فيه مكاناً ورتبه وكان قد حمل مؤونة تكفى لستة شهور , وسر جداً لأن الرب أرشده إلى هذا المكان الذى يبعد عن العالم وينفرد مع حبيبه الرب يسوع , واستقر به المقام في المكان (10)

تقشفه وزهده
ومن كثرة الزهد والنسك والتقشف صار جسده نحيفاً كأنه غير مركب من لحم وعظام , ومع ذلك كان حليماً وديعاً يهتم بإطعام الآخرين , وكان كلامه ووجهه يبديان الهشاشة والبشاشة عند رؤيته الناس تحضر إليه , ولم يتغير حاله بتغيير الأمور الزمنية ولا المنكان الذى يتواجد فيه .

وعندما علمت الجموع أن الأنبا انطونيوس عاد من الأسكندرية عادت تتوافد على القصر ( الحصن ) وكان عددهم يتزايد فاضطر أن يزرع لهم بقولاً وبعض النباتات الأخرى , ولما نمت دخل حقله بعض وحوش البرية , وفى ذات يوما أمسك بأحدهم وهو يرعى فى حقله فقال له : " لماذا تضر بى أنا الذى لم أضرك بشئ أخرج من ههنا ولا تعد " وقيل أن الوحوش أمتنعت عن تخريب حقله ولم تعد بعد ذلك .

رسالة قسطنطين الأمبراطور إلى الأنبا انطونيوس
وحدث أن انتصر الأمبراطور قسطنطين فى الحرب عندما رفع علامة الصليب فأمر بأن تكون المسيحية هى الدين الرئيسى , وكانت امه الملكة هيلانه مسيحية فأمرت ببناء الكنائس فى كل مكان , وسمع الأمبراطور عن الراهب المتواضع أنطونيوس فأرسل له هو وأولاده خطاباً للقديس هو وأولاده وطلبوا غليه بخضوع أن يتنازل بالرد على رسالتهم فتعجب الرهبان من تواضع الأمبراطور وكان الموضوع الرئيسى فى الكلام فيما بينهم , فجمعهم القديس وقال لهم : " لا تتعجبوا لأن ملوك الرض قد كتبوا إلينا ولا يجب على المسيحى أن يستعظم هذا الأمر ويندهش منه , أما الأمر العجيب والمذهل للعقول فهو أن الرب كتب شريعته من أجل البشر , وأرسلها على أيدى إناس أصفيائهم وفى آخر الأيام خاطبنا فى أبنه الوحيد الذى يسمو بما لا يقاس على كل الملوك والسلاطين " أ . هـ

ولما رأى الرهبان عندم أهتمامه بالرسالة أو الرد عليها أقنعوه بضرورة الرد لا لأنه الأمبراطور بل لأنه مسيحى قصد الأستفادة فلا ينبغى أن تمنع عنه .. فكتب له الرد وبعد الديباجة ( المقدمة ) قال : " أنى أسر معكم من أنكم تعبدون يسوع المسيح هو الملك الحقيقى والأبدى الوحيد وأن تتخذوا الفطنة دستوراً لأعمالكم فى أدارة شئون المملكة وتسيروا فى الرعية بالحلم والعدالة وتساعدوا الفقراء كمساعدتكم لأخوتكم " أ . هـ

فلما قرأ الأمبراطور قسطنطين وأولادهع وكبار دولته هذه الرسالة أثرت عليهم تأثيراً عظيماًُ وأدركوا الفرق بين كتابات الأرثوذكسيين وكتابات الأريوسيين التى تمتلئ من روح الرياء والنفاق , وأحتفظ الأمبراطور برسالة أب الرهبان أنطونيوس كأنها كنز عظيم .

الأنبا أنطونيوس والإضطهاد الأريوسى لقبط مصر
ولم يمر وقت طويل على الأضطهاد الوثنى حتى أشتد إضطهاد الأريوسيين على الأرثوذكس فأرسل إليه البابا أثناسيوس الرسولى يطلب منه أن يأتى ويقف معه ضد الأريوسيين وبناء على طلب الأنبا أثناسيوس وعندما عزم الأنبا أنطونيوس على الذهاب إلى الإسكندرية بلغه أخبار ان البطريرك قد نفى فطلب منه أغنياء الأسكندرية ومشاهيرهم الأقباط فى ذلك اليوم أن يكتب خطاباً إلى الأمبراطور قسطنطين يحتج فيه على مقاومته للأرثوذكسيين .

ولما علم أن الأريوسيين قد بلغت بهم الجسارة أن يشيعوا كذباً أن القديس أنطونيوس موافق على رأيهم رجع إلى الأسكندرية مع بعض رهبانه وخطب مع شعب المينة من المستقيمين الرأى قائلاً : " أنهم تجاسروا على الطعن بألوهية مخلصنا , وقالوا إنه كان خليقة بسيطة .. كلا أنه أبن الرب الإله ليس هو خليقة , ولم ينشأ من العدم بل كان منذ الأزل لأنه كان كلمة وحكمة الآب , ولهذا لا تشتركوا فقط مع الأريوسيين المنافقين لأنه لا يمكن أن يكون أتحاد بين النور والظلام أنه لكفر أن يقال بأنه وجد وقت لم يكن فيه الكلمة لأن الكلمة دائماً مع الآب .

" أنكم مسيحيون لأنكم فى التقوى الحقيقية وفى افيمان الحقيقى , وأما الأريوسيين فإنهم حينما يقولون أن كلمة الآب أبن الرب الإله مخلوق فإنهم لا يختلفون بشئ عن الوثنيين الذين يعبدون الخليقة عوضاً عن الخالق , فصدقوا إذن أن كل الخلائق تقف ضدهم لأنهم يجعلون فى عدد المخلوقات رب وسيد كل الأشياء التى هى كافة من صنع يديه فإهربوا إذأ من مخالطتهم كهربكم من الحيات والعقارب , فمن لا يحب يسوع المسيح فليكن محروماً .. الرب سيجئ " أ . هـ

وقد كتب الأنبا أنطونيوس إلى رجل أريوسى كان يضطهد الكنيسة بقسوة شديدة ما نصة : " إن الرب قد وضع فى قوس عدله سهام غضبه عليك , وانه سيرشقها على هامتك إذ لم تتب سريعاً "

أما الهرطوقى الأريوسى فلما قرأ الرسالة ضحك منها مستهزئاً , وألقاها على الأرض وتفل عليها ووطأها بقدمه , وقيل أنه بعد ثلاثة أيام ضربه الرب فمات ولكثرة العجائب التى صنعها الرب يسوع على يديه بالأسكندرية وصلت أخباره للوثنيين فصاروا يفدون إليه ويتباركون منه وإن لم يستطيعوا الوصول إليه من كثرة الزحام كانوا يلمسون أطراف ثيابه , وحاول تلاميذه الرهبان ان يمنعوهم فإنتهرهم وأمرهم أن يتركوا الحرية لكل من يأتى إليه فتمكن من جذب عدد عظيم من الوثنيين إلى المسيحية حتى أن أحد المؤرخين قال : " أن الذين أعتنقوا العقيدة المسيحية على يده فترة أقامته بالأسكندرية أكثر من الذين كانوا يتعمدون فى مدة سنة "

ولما رأى أن الإيمان أنتعش ودبن روح المسيح فى مدينة الإسكندرية قرر الرجوع إلى الدير , فحزن الشعب , وطلبوا إليه أن يبقى معهم مدة غياب راعيهم الأنبا أثناسيوس .. فأجابهم قائلاً : " إن الشمع يذوب إذا إقترب من النار , هكذا تضمحل فضيلة الناسك إذا دنا من العالم " .. ثم اخذ يثبتهم فى افيمان ويعزيهم على فراق راعيهم وتنبأ لهم بعودته منتصراً .

الأنبا أنطونيوس والبابا الأنبا أثناسيوس الرسولى
كان البابا الأنبا أثناسيوس قد تتلمذ وهو شماس على يد القديس الأنبا انطونيوس , وكان البابا العظيم ألنبا اثناسيوس يفخر دائما أنه كان يحمل الماء للقديس النبا أنطونيوس , وعندما أصاب شعب السكندرية وبأ فقام البابا الأنبا أثناسيوس هو وبعض الكهنة والشمامسة بزيارة الأنبا انطونيوس حتى يصلى إلى الرب لكى يرفع غضبه عن المدينة , وبعد رفع صلاة حارة إلى الرب يسوع طمأنه القديس أنطونيوس أن الرب قد رفع غضبه عن مدينة الأسكندرية , وقد ألبس الراهب البسيط الأنبا انطونيوس لبس الرهبنة ( القلنسوة - الأسكيم - المنطقة - البرنس - التراج الصوف ) وقال له من ألان يكون هذا هو لبس الاباء البطاركة إلى آخر الدهور , فلما سمع الأب البطريرك هذا الكلام من القديس أنطونيوس .. تعزت نفسه وتبارك منه وعاد إلى مدينة الأسكندرية بسلام (11)

وكان بين القديس أنطونيوس أب الرهبان والقديس أثناسيوس الرسولى مودة وثيقة حتى أن القديس أثناسيوس كتب سيرة الأنبا انطونيوس وأعمالة الجليلة , وكان القديس أثناسيوس يحب الأنبا انطونيوس ويقدر زهدة وتقواة (12)

رسائل الأنبا أنطونيوس
ورجع القديس إلى ديره وأعتم بإرسال رسائل أكثرها إلى الرهبان وقال بعضهم أنها وصلت إلى 20 رسالة وآخرون قالوا أنها كانت سبعة رسائل فقط ,

محاورات الفلاسفة مع الأنبا انطونيوس
ولم يكن ألأنبا انطونيوس يعرف شيئاً من اللغات ولا العلوم , بل كان يعرف القراءة والكتابة بلغته المصرية القبطية فقط

وقيل عنه أن احد الفلاسفة الحكماء سأله ذات يوم إذا ما كان يضجر ويمل .. إذ لا سبيل له إلى السلوى التى يحصل عليها ألاخرون بالقراءة فى الكتب فأجابه قائلاً : " إن لى فى الطبيعة كتاباً " .

وذات يوم ذهب إليه فللسوفان ليختبروا علمه ويقيسوا فلسفتهما بمعرفته فقال لهما : " لماذا تتعبان نفسيكما لزيارة أحمق مثلى ( علامة التواضع وإنكار أنه شئ وهى فلسفة رهبانية ) فأجاباه : " لقد حضرنا إليك لأعتقادنا أنك رجل حكيم " فقال لهما : " إذا كنت حكيماً فكونا مثلى لأن الأقتداء بالحكماء واجب , فأنا مسيحى فكونا كذالك " .. فصمتا متحيرين ثم تركاه .

وقصده آخرون من العلماء ليمتحونه فسألهم قائلاً : " العقل أفضل أم العلم " فأجابوا : " العقل " فقال لهما : " إذا من كان عقله سليماً لا يحتاج إلى علم " (13) ثم ناقشهم أى الديانات أفضل وبعد مناقشات طويلة , أقترح عليهم أخراج الأرواح النجسة من مجانين كانوا حاضرين وقتئذ فحاولوا ولكنهم عجزوا فقد صارت الشاياطين تهيج الناس عليهم , فتقدم ورسم عليهم علامة الصليب فخرجت منهم الشياطين .

توصياته الأخيرة
وعندما وصل الأنبا أنطونيوس إلى سن 105 كان العالم كله قد عرف باعمالة وأختبر حكمته وأنتشرت عجائبه وآياته , وشعر بدنو أجله فكان يطوف على أديرة الرهبان وينصح تلاميذه ويحثهم على القيام بواجباتهم المقدسة المفروضة عليهم وكان يقوم بأعداد أجتماعات لهم وبعد أن وعظهم كثيراً قال : " سأفارقكم يا اولادى لكنى لا أفتر عن محبتكم , وأرجوا منكم أن تداوموا بكل غيرة ممارسين أعمالكم المقدسة ولا تتراخوا ابداً إياكم إياكم أن يخمد نشاطكم فى إتمام واجباتكم , أجعلوا الموت كل يوم نصب أعينكم , واجتهدوا بعناء بكامل طاقتكم فى أن تحفظوا نفوسكم طاهرة وخالية من الأفكار الرديئة , أبذلوا الجهد فى أقتفاء آثار القديسين , وأتبعوا بكل شجاعة طريق الحق , وحذار من أن تشتركوا مع شيع الهراطقة الذين تعرفون ردائتهم واعمالهم الذميمة , وأهربوا منهم كما تهربون من الطاعون من الأريوسيين المعروف بدعتهم عند كل الناس , وأن كل حكام الولايات يساعدونهم وينشرون تعاليمهم , فلا تتعجبوا قط لأن هذه السلطة الوهمية التى أختلسوها لا بد أن تتلاشى , بل فليكن ذلك محرضاً لكم بزيادة على أن لا يكون لكم أقل علاقة معهم , حافظوا بكل تقوى على تقليدات آبائكم , وأثبتوا بالأخص فى إيمان الرب يسوع المسيح له المجد الذى تعلمناه من الكتب المقدسة والذى فسرته لكم مراراً " أ . هـ

وبعد أن اكمل توصياته الأخيرة لرهبانه حتى أسرع بالذهاب إلى صومعته لشعوره بالتعب , فدعا تلميذيه مكاريوس ( أبو مقار الكبير المصرى ) وأماناس وخاطبهما قائلاً : " أنى أرى يا ولدى أن الرب يدعونى إليه وأنى مزمع كما هو مكتوب أن أسلك طريق كل أحد , فداوما على البر حسب عادتكما ولا تفقدا ثمرة أعمالكما المقدسة التى مارستوها منذ سنوات عديدة ولكن أجتهدا كأنكما بادئان فى أن تحفظا وتزيدا فى أرتقاء حرارتكما , وأنتما تعلمان مكائد الشيطان , وقساوته ولا تجهلان ضعفه قط بل آمنا بالرب يسوع المسيح ولا تكن لكما رغبة إلا فى خدمته .

عيشا يا اولادى كأنكما مزمعان أن تموتا كل يوم اسهرا دون أنقطاع على نفسيكما , وتذكرا التعاليم التى أرشدتكما إليها غالباً , ولا تشتركا قط مع المنشقين ولا مع الهراطقة الأريوسيين لأنكما تعلمان جيداً كيف كنت دائماً محتقراً لهم بسبب هرطقتهم المرذولة لأنهم يجسرون على محاربة رب المجد يسوع المسيح وتعاليمه , إبذلا الجسد والجهد لتتحدا أولاً معه ثم مع القديسين لكى يقبلوكما كأصدقاء وأصفياء فى الملكوت السماوى , أطبعا هذه الكلمات على صفحات قلبيكما , وإن شئتم أن تبرهنا على محبتكما لى وأنكما تذكرانى كأبيكما فلا تسمحا أن ينقل جسدى إلى مصر خوفاً من أن يحفظة أهلها فى بيوتهم , وهذا هو السبب الذى حملنى إلى الفرار لأموت فوق هذا الجبل , فإدفنانى إذا تحت الأرض ولا تقرا لأحد عن موضع قبرى حتى إذا جاء يوم القيامة أقتبل هذا الجسد من يد يسوع المسيح بكر القيامة خالياً من الفساد .

أما ثيابى فوزعاها هكذا : أعطيا للأسقف أثناسيوس أحد جلود الغنم والرداء الذى أستلمته منه جديداً رداه إليه باليا (كان قد لبسه سنين طويله ) وأعطيا الأسقف سيرابيوس جلد غنم الآخر وأحفظا لكما مسحى , أستودعكما الرب يا ولدى العزيزين , ان انطونيوس يغادركما ويتخلف عنكما " أ . هـ

وبعد ان لفظ كلماته الأخيرة أقترب منه تلميذاه وعانقاه وهما يبكيان وللحال أمتد على سريره ولم يكن نظره قد كل بعد ولا سقط سن من أسنانه وبدا وجهه للناظرين كأنه يسطع نوراً وبهاء , ثم أستودع الروح فى يد مخلصة فى 22 طوبة 356 م , وقام تلميذاه بتكفينه وأخفيا قبره حسب ما وصاهم ووزعا ملابسه وأشيائه , وقد فرحا بما تركاه لهما فقد حسباه أن ثمنه يفوق اللآلئ .

ويقول المؤرخ القس منسى أن جسد الأنبا انطونيوس الطاهر قد دفن أمام باب الهيكل القبلى بالكنيسة التى بناها فى حياته بإسم السيدة العذراء , وسميت بعد ذلك بإسمه ولم تزل حتى اليوم تضم ذلك الجسد الكريم داخل ديرة العظيم الذى شيد فى ايام الأنبا أنطونيوس بجوار مغارته بالجبل الذى يسمى الان بجبل عربة , ( جبل الأنبا أنطونيوس )

أكمل الأنبا أنطونيوس حياته متعبداً في البرية الداخلية وتنيح سنة 356م عن 105 سنة قضاها في حياة تشبه حياة الملائكة, أرسى خلالها أسس نظام الرهبنة التوحدية وأصبح له تلاميذ كثيرون في البرية الشرقية وبرية وادي النطرون وبرية القلمون بالفيوم وغيرذلك.

ويقول الأب متى المسكين (14) : " بالرغم من أن القديس بولا يظهر كعملاق روحانى فى تاريخ الرهبنة , إلا أنه لم يستطع أن يسلم أسرار الحياة النسكية لغيره من عشاق النسك والتوحد , وبسبب ذلك أعتبر القديس أنطونيوس أول من أعطى السر الرهبانى للعالم , وذلك حينما لقنه لأولاده , وسلمه إليهم كميراث ثمين , ظل يتوارثه العالم كله من بعده جيلاً بعد جيل - ولقد توفرت لدى أنطونيوس منذ البدء كل العوامل التى أهلته أن يكون أباً ومؤسساً للحياة الرهبانية , فقصة حياته بقلم القديس اثناسيوس الرسولى (15) توضح اصالة إتجاهه المسيحى فى تطبيق وصايا الإنجيل , كما تجلت لروحه بلا أى مواربة أو تحفظ . "

************************************

من أقوال الأنبا أنطونيوس
*** " تتقدس النفس النقية وتستنير بالله من اجل صفائها، عندئذ يفكر ذهنها فيما هوصالح وتنبع عنها ميول وأفعال صالحه ".
*** " كما يكون الجسد أعمى بدون العينين فلا يعاين الشمس المنيرة على الأرض والبحر ولا يقدر ان يتمتع بضيائها، هكذا تكون النفس عمياء بدون العقل السليم والحياة الصالحة، فلا يكون لها معرفة بالله ولا تمجد الخالق صانع الخيرات للبشرية كلها، ولا تقدر ان تتمتع بالفرح عن طريق حصولها على عدم الفساد ونوالها تطويباً أبديا"
*** يقول لتلاميذه : " لا أمل الطلبة عنكم ليلا ونهاراً، لكى يفتح الرب عيون قلوبكم وتعرفوا مكر الشياطين وخداعهم وشرهم، وأن يعطيكم قلبا صاحيا وروح إفراز لكى تستطيعوا ان ترفعوا ذواتكم ذبيحة لله، وتتحرزوا من مشورة الشياطين الرديئة "
ويقول أيضاً : " "فالآن يا أحبائي الذين صرتم لي أولادا اطلبوا نهارا وليلا لكي تأتي عليكم موهبة الإفراز هذه التي لم تأت عليكم قبل الآن منذ دخولكم هذا الطريق النسكي.. وأنا أيضا.. " .
*** " الطاعة ُتخليك مسئولية الطريق".
*** أنظر إلى شاتمك نظرة تقدير واحترام لأنه عتقك من السيج الباطل ( الكبرياء وغرور النفس ) إذ جعلك تشعر بحقارتك

*** ومن نصائحة وأقوال الأنبا أنطونيوس : " ويجب عليكم أن تقرروا فى أذهانكم أن الواحد منكم يحتسب ذاته كل يوم أنه ابتدأ جديداً حتى لا يكسل ولا يتراخى فالأنسان يستطيع أن يجد نعيماً فى أى مكان طالما هو متعلق بالرب فى قلبه والشياطين يفزعون جداً من الصلوات والصوم والسهر , والتقشفات لا سيما من أحتقار العالم والفقر الأختيارى وكسر حدة الغضب لأن هذه الفضائل تسحق رأس أبليس كما أن أسلحة محاربتنا لأعدائنا هى الإيمان الحى والسيرة النقية .

والذى تعبد للرب وهجر العالم وإن كان ترك كل شئ حتى مجد الملوك وكنوزهم ينبغى أن يحتسب كل ذلك كالعدم بالنسبة إلى السماء , وإن الذى تركه يجب عليه تركه بعد قليل لأنه ليس بأحد دائم على الأرض وإن ترك الإنسان ما لا يقدر أن يأخذه معه بعد الموت فليس أمراً كبيراً , وكما أن البعد الأمين إذا أمره سيده بشئ لا يستعفى من عمله لأجل خدمته الماضية كذلك الرجل المتعبد للرب لا ينظر ما قد فعله وإنما يلتفت إلى ما بقى مما يجب عليه لربه وانه لا يجازى ولا ينال الأكليل على البداية بل على النهاية الحسنة , فإكتساب الفضيلة ليس أمراً صعباً كما يتصوره الناس بل يجب أن نلقى كل اتكالنا على ربنا يسوع المسيح وأن أبليس لا يستطيع أن يضرنا مالم نسلم أنفسنا "

*** إن السلوك فى سبيل الفضيلة هو أفضل من فعل المعجزات وأن الإنسان يقدر أن ينتصر بسهولة على الشيطان إذا أخلص العبادة للرب من كل قلبه بسرور باطنى روحى مستحضراً للرب فى ذهنة كل حين لأن هذا النور يمزق ذلك الظلام ويزيل تجارب العدو سريعاً ومما يفيدينا فى ذلك النظر إلى سيرة القديسين وأقتفاء آثارهم فإن فيها تحريضاً على الأقتداء بهم " أ . هـ

===========================================================

المــــــــــــــراجع
(*) هذه الصفة يوصف بها الأنبا أنطونيوس فى القداس الإلهى

(1) تاريخ الكنيسة القبطية القس منسى يوحنا طبع مكتبة المحبة سنة 1982 م الطبعة الثالثة ص 98 - 106

(2) كوما (قيمن الآن ويقال قمن العروس ) قرب بنى سويف وهى مدينة هرقلية قديماً التى كانت مشهورة بين مدن الصعيد - وتقع فى منطقة تكثر فيها الآثار الفرعونية ففى الجزء الشمالى منها هرم سقارة , وإلى جنوبها هرم دهشور , ومنطقة دير الميمون تقع على ضفة النيل الغربية المقابلة لــ قمن

(3) راجع بستان الرهبان - نسخة دير البراموس وتحوى بعض النسخ الأخرى قصة مختلفة ولكن تتفق النسخ جميعها على أن النبا انطونى هجر العالم وهو فى العشرين من عمره .

(4) أيريس حبيب المصرى - قصة الكنيسة القبطية - طبعة 1998 - مكتبة كنيسة مار جرجس بأسبورتنج - أسكندرية - الجزء الأول ص 99

(5) هى بلدة على ضفة النيل بمحافظة بنى سويف وبها دير القديس أنطونيوس -أما المكان الذي سكن فيه أولاً على شاطئ النيل فهو الآن بلدة "دير الميمون" أو منطقة بسبير حيث يوجد دير أثري عظيم للأنبا أنطونيوس يضم كنيستين الأولى قديمة جداً لأبي سيفين, ويبدو أن تلك الكنيسة عاصرت الأنبا أنطونيوس والتي كان ينقله إليها الأهالي للراحة والاستشفاء حينما كانت تهاجمه الشياطين في قلايته القريبة وتضربه بقوة وتتركه بين حي وميت. .

والكنيسة الأخرى حديثة نسبياً وهي باسم قديسنا الأنبا أنطونيوس وبها مغارة صغيرة باسمه أيضاً, ويقال أنها كانت مقبرة فرعونية سكن فيها القديس, و"دير الميمون" هي المنطقة المعروفة باسم "يسيير" وقرية "دير الميمون" كل سكانها مسيحيون وعندهم أحاديث وتقاليد متوارثة عن أماكن معينة في القرية كان القديس الأنبا أنطونيوس يجلس فيها ويعمل عمل يديه, ومكان حجري على شكل حوض يقولون أنه كان يبل فيه الخوص, وكان المتنيح نيافة الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف يهتم بهذا الدير اهتماماً خاصاً وحاول أن يجعله مكاناً سياحياً يليق بالقديس أب الرهبان, فحاول أن يبني له سوراً ويعزله عن مساكن الأهالي ويبني بجانبه بيت خلوة لراحة الزوار - مكان دير الميمون الان فى منتصف المسافة بين بنى سويف وأطفيح .

(6) Ev. Wh. II. p. 14

(7) المؤرخ جون نيل فى كتابه " تاريخ الكنيسة الشرقية المقدسة - بالأنجليزية ج1 ص 108 - 109

(Cool الأسكيم هو منطقة من جلد تتخلله صلبان على أبعاد متساوية , وقد ألبسه الملاك للقديس أنطونى , فأصبح بذلك دليلاً على أن لابسه قد بلغ درجة عظمى من القداسة , وهذه المنطقة لا يلبسها الراهب إلا متى بلغ هذه الدرجة , وهذه الدرجة " إلباس الأسكيم المقدس " تجرى بصلوات خاصة تتلى على الراهب قبل تمنطقة بها , والمفروض أن البطاركة والأساقفة قد حظوا بالأسكيم قبل وصولهم إلى الرتبة الكهنوتية العليا , فإن أختير راهب للأسقفية قبل أن ينال الأسكيم , تتلى عليه الصلوات الخاصة بهذه المنطقة المقدسة ويلبسها قبل رسامته بأسبوع .

(9) جاء ذكرهم في مخطوطة قبطية صعيدية تتضمن سيرة الشهيد أبيما البهنساوي - منقول عن كتاب شهداء وقديسون وعلماء كنسيون من إيبارشية بني سويف والبهنسا.

(10) ( أصبح الموجود به ديره العامر حتى الآن بالقرب من شاطئ البحر الأحمر )

(11) مخطوط 108 تاريخ بمكتبة دير القديس الأنبا انطونيوس

(12) سيرة القديس العظيم الأنبا انطونيوس - وتاريخ ديرة العظيم - ومشاهير من قديسى الدير .. أعداد الراهب القمص أنطونيوس الأنطونى سنة 1999م

(13) أى أن العقل يمكن يصل إلى العلم , وبالعقل يتعلم الأنسان أى شئ

(14) دير القديس أنبا مقار - الرهبنة القبطية فى عصر القديس أنبا مقار - الأب متى المسكين سنة 1995 م ص 47

(15) Migne P.G. XXVL