هالة العيسوى

عند نهاية الزيارة ولدي مصافحة الوداع مازحني قائلاً الآن أصبح بيننا عيش وملح.

لي شخصياً مع قداسته ذكري لا تنسي، وصورتان ما تزالان تزينان ألبومي تسجلان لهذا اللقاء الوحيد البعيد الذي جمعني به في أوائل التسعينات. كان قد تكرم بتوجيه الدعوة لعدد من الصحفيين المصريين في مقر إقامته واعتكافه في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون. لم أكن قد بلورت في ذهني فكرة واضحة عن قداسة البابا شنودة. دفعني الفضول وربما الشغف الي تلبية الدعوة والنظر اليه والاستماع لأفكاره في جلسة هادئة غير رسمية بعيداً عن صخب المدينة وتيهها الذي تغلفنا به.
هناك .. في هذا المكان النائي ــ الذي لا ألبث أن أعود اليه زائرة كل حين من الوقت لفرط روحانيته وهدوئه وصفائه ـــ استقبلنا بابتسامة هادئة تطل من وجهه، ترحاب وقور، دفء في التحية حتي لتتصور انه يعرفك من قبل، صوت خفيض يجبر الموجودين في حضرته علي الصمت ..لا .. بل علي كتم انفاسهم كي يتمكنوا من سماعه، ومغالبة نوبات سعالهم حتي لا تحدث ضجيجاً يشوشر علي الباقين. شخصية كاريزمية بكل المقاييس، في لحظة يسبر أغوارك ويستطيع تقييم الشخصية التي أمامه. حنكة هي؟ ربما.. شفافية هي؟ ربما أيضاً. لكن المؤكد انك حين تجلس اليه يأسرك ولا يجرؤ عقلك علي الفكاك منه والانشغال عما يقوله.
عند الجلوس الي مأدبة الغداء الفاخرة التي دعانا اليها بدأت مشاغباتي مع قداسته.اكتشفت انه كان يعيش فترة صيام مطولة يقتات فيها بالخبز الجاف والملح والزيتون المزروع في أراضي الدير، ولامانع من بضع قطرات من الزيت كنوع من "الترف" أو كما نقول "يبّر نفسه". علي المائدة تم اعداد الوجبة المتقشفة الخاصة بقداسته امام المقعد الذي سيجلس عليه، بينما باقي المائدة عامرة بخروف مشوي وجميع صنوف اللحوم والطيور والمحشيات والطواجن.
قلت له: ضميري لا يسمح لي بتناول هذه الأصناف بينما قداستك تأكل الخبز الجاف والملح. ابتسم ابتسامته الوادعة وقال: هذه حياتي التي اخترتها، وهذا التقشف هو أقل العذابات وانواع الحرمان التي يلاقيها البشر. قلت له: لدينا نحن المسلمين عُرف ان الصائم في النوافل يقطع صيامه عند وجود ضيف لديه. فاجأني قائلا ليصحح معلوماتي: "إنه ليس عرفاً لكنه سُنّة عن الرسول محمد". وصحيح ربما يتسبب الصيام في حرج للضيف لو شعر بالجوع لكنني الآن لست منقطعاً عن الطعام، فقط أنا عازف عن كل مافيه مظهر من مظاهر الرفاهية أليس هناك حديث نبوي يقول: بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه".
أذهلتني معرفته بالإسلام، توقفت أمام المنطق الذي أجابني به لكني لم اتوقف عن مشاغباتي، وقلت له: مع ذلك لن أسمح لنفسي ان آكل من هذا الطعام ولتأذن لي ان أجلس بجوارك وأشاطرك طعامك، نحن نأكل هذا الطعام كل يوم، لكننا لا نشاطرك طعامك كل يوم هذه مناسبة نادرة. كانت المقاعد المحيطة بقداسته قد انشغلت ببعض الحاضرين الذين يلتمسون البركة منه. بنظرة منه لها مغزاها تكرم أحد المجاورين له بالتخلي عن مقعده لي وسحب طبقه ليجلس مكاني. وسمح لي قداسته بالجلوس الي جواره ومشاركته الخبز والملح والزيت، لكنه مع ذلك لم يكف عن ملء طبقي بأنواع الطعام الأخري.
عند نهاية الزيارة ولدي مصافحة الوداع مازحني قائلاًالآن أصبح بيننا عيش وملح. شعرت بالزهو وقلت: بساطتك وتواضعك يشجعاني علي التبجح والرغبة في ابداء تعليقي علي أمر شخصي. بإيماءة قبول نلت الموافقة، فقلت: اسمح لي ان أبدي إعجابي بأناقتك، وانبهاري بالتطريز الفاخر الذي توشي به عباءاتكم المختلفة، من أين لك به؟ ولأول مرة تنفرج أساريره بما يفوق الابتسامة فتنم عنه ضحكة خافتة ليجيبني: أخواتنا الراهبات يتكرمن علينا بهذا الشغل اليدوي.
خرجنا من هذا اللقاء الثري وقد امتلأت نفوسنا عذوبة، وزهداً، وامتلاءً، بعد أن جمعتنا سويعات مع قداسة البابا الزاهد الفيلسوف، السائح في ملكوت الله ، العالم بالتاريخ وعلم النفس والسياسة.....