- التداريب الروحية




حدثتكم في المقالات السابقة عن بعض الفضائل. أما في هذا المقال فأود أن أتحدث عن ممارسة تلك الفضائل.. وفى رأيي أن الممارسة تأتى عن طريق التداريب الروحية.

الذي يريد أن يصل إلى الله، ينبغى أولاً أن يعرف الطريق الموصل إليه، ولكن المعرفة وحدها لا تكفى.. يجب أن يكمل الإنسان الطريق الواصل من المعرفة إلى الممارسة.

ماذا يفيدك إن عرفت كل المعلومات عن الفضيلة، وأنت لا تسلك فيها؟! أو ماذا تستفيد إن عرفت كل المعلومات عن الله، وأنت غير ثابت فيه؟! إن المعرفة وحدها ربما تقود إلى الدينونة. لأن الكتاب يقول" الذي يعرف أكثر، يطالب بأكثر". ولكن ليس معنى هذا أن الجهل أسلم؛ فالقديس أوغسطينوس يقول: إن هناك فرقاً كبيراً بين الجهل ورفض المعرفة. إن الذي يرفض أن يعرف، يدان أمام الله على رفضه للمعرفة، أو على عدم سعيه إليها إن كان ذلك في إمكانه..

يبدأ الإنسان بمعرفة طريق الله، إما عن طريق القراءة أو السماع أو القدوة الصالحة أو صوت الضمير. ويتطور من المعرفة إلى الاقتناع، ثم إلى الرغبة والحماس، ثم إلى التنفيذ..

<P align=center>

إن البعض قد يقرأ عن الفضيلة، ويعجب جداً بما يقرؤه، وقد يقتنع به، وقد يتحدث عنه، وقد يعظ به.. ولكنه يقف عند هذا الحد، ويبقى الحديث عن الفضيلة مجرد أفكار تعيش خارج حياته.. فكيف يمكنه أن يحول هذه المعلومات إلى حياة؟ اقترح لذلك فكرة التدريبات الروحية..

والتداريب الروحية معناها أن الإنسان بدأ مرحلة جديدة وهى تدريب نفسه عملياً على الفضيلة، أو تدريب نفسه على ترك خطية معينة، أو محاربة عادة خاطئة عنده أو أى عيب يراه في سلوكه. أو قد يدرب ذاته على معالجة ضعف معين في علاقته مع الله أو مع الناس..

بهذه التدريبات تتحول المعلومات الروحية إلى حياة، ويتحول الاقتناع النظرى إلى سلوك عملى وتتحول وصية الله إلى طبع في الإنسان.

وبهذه التدريبات يواجه الإنسان ذاته، ويواجه الواقع، ويدخل في حرب روحية مع نفسه، ويحاول أن يخضعها للحق والبر.. ويعرف أيضاً العوائق التي تعترض طريقه الروحى..

وسنحاول أن نأخذ مثالاً عملياً ونحلله، لنفرض أن إنساناً اكتشف في نفسه أنه إنسان سريع الغضب، وأراد أن يدرب نفسه على الهدوء والوداعة. فماذا يفعل؟

ينبغى أولاً أن يكون مقتنعاً بفائدة هذا التدريب وعازماً على السير فيه.

من أجل هذا عليه أن يضع أمامه أضرار الغضب، وجمال الطبع الوديع الهادئ، ويستعرض أمامه بعض أقوال القديسين في ذلك، ولا مانع من أن يقرأ بعض السير الجميلة التي تحببة في فضيلة الوداعة. ويقنع نفسه أيضاً بتذكر ما جره على نفسه من قبل نتيجة لغضبه..

بعد ذلك يراقب نفسه ويحاسبها. وفى كل مرة يحاربه الغضب يذكر نفسه بالتدريب . ولا مانع من أن تكون له كراسة خاصة بالتدريبات (أو نوتة) يسجل فيها ما يحدث له بخصوص هذا التدريب. فإن نجح في تدريبه يشكر الله على ذلك، وإن فشل يحاول أن يحلل أسباب فشله.

يعرف مثلاً: مع من ثار وغضب، ولأى سبب، وما هي الأخطاء التي وقع فيها أثناء غضبه. ويحاول أن يعرف هل هذا الغضب كان أمراً عارضاً، أم أن له عنصر الثبات. أقصد هل هو دائم الغضب مع هذا الشخص بالذات، أو لهذا السبب بالذات؟ بحيث إذا اصطدم بنفس الشخص أو بنفس السبب لا بد أن يغضب؟ ثم يسأل نفسه هل كان الغضب هو العلاج الوحيد للموقف، أم كان ممكناً أن يعالجه بطريقة أخرى؟ وهل هو قد تسرع في تصرفه؟ وهل كان ممكناً بشيء من التفكير أو بشيء من طول الأناة أن يسلك بطريقة أهدأ وأسلم؟..

إن محاسبة النفس هذه وتحليل تصرفاتها، أمر لازم لكل إنسان يريد أن يعالج أخطاءة.

فإن وجد أنه مع إنسان معين لا بد أن يخطئ، يحاول أن يتحاشى هذا الإنسان، ويتفادى الحديث معه أو الخلطة به أو يحاول أن يحدد لنفسه سياسة حياله في المرات المقبلة حتى لا يفاجأ بنفس التصرف منه فيغضب. أو يحاول أن يصلح شعوره من جهته..

كذلك عليه أن يعرف الأخطاء التي يقع فيها أثناء غضبه ويدرب نفسه على تركها، فإن كان في غضبه يرتفع صوته ويحتد، يدرب نفسه على الصوت المنخفض الخفيف، وإن كان في غضبه تحتد ملامحه ونظراته ويتغير شكل وجهه، حينئذ يدرب نفسه على هدوء الملامح. وإن كان في غضبه يستخدم الألفاظ الجارحة، يدرب نفسه على الألفاظ الهادئة.. إلخ.

المهم أن يضع الإنسان نفسه تحت مراقبة، وتحت توجيه خاص، ولا يترك نفسه على حريتها تتصرف كما تشاء دون حساب ودون تعديل للاتجاه الخاطئ. الإنسان الذي يستخدم طريقة التدريبات الروحية هو إنسان ساهر على خلاص نفسه، مهتم بنقاوة قلبه. وهو أيضاً إنسان لا يجامل ذاته، ولا يدعى انه بغير خطية.

كلنا نخطئ. وعلينا أن نلتفت إلى أخطائنا فنعرفها ونعالجها.

ويمكن أن يكن التدريب الروحى تحت إرشاد روحى يقود ويوجه. وعلى أية الحالات فإن الإنسان الذي يدرب نفسه باستمرار، سيأتى عليه وقت يصبح فيه خبيراً بالحياة الروحية وبالمحاربات الروحية، بل يصبح أيضاً خبيراً بالنفس البشرية وبما يتفاعل فيها من مشاعر وأحاسيس وأفكار.. ويمكنه بطول الخبرة أن يصلح لإرشاد غيره..

إن الدين ليس مجرد معلومات يتلقها الإنسان بل هو حياة. فما أسهل أن يتحول الشخص إلى دائرة معارف، ويبقى فارغاً من الداخل.. أما الدين فهو الوسيلة التي تقودنا إلى حياة الكمال. لذلك يقول لنا الرب في الإنجيل: "الكلام الذي أقوله لكم هو روح وحياة"..

لذلك فإن المعرفة الدينية يجب أن تكون مجرد وسيلة توصيل إلى الحياة الفضلى. ولهذا لا يصلح كل إنسان لتدريس الدين. فالدين ليس مجرد علم.. إننا نريد أن نصل إلى الوضع الذي يصبح فيه مدرس الدين عبارة عن وسيلة إيضاح لجميع الفضائل، ويصبح فيه المدرس هو نفسه الدرس هو القدوة العملية والمثال العملى الذي يتعلم منه الناس، فلا يصير واعظاً بل عظة..

وعلى كل إنسان يسمع عن الفضيلة أو يقرأ عنها، أن يأخذها مجالاً للتدريب العملى، ويبذل في اقتنائها كل جهده. مصلياً في كل حين أن يعطيه الرب قوة على السير في طريقة، وعلى النجاح فيما يدرب نفسه عليه