من الأعماق صرخت إليك يا رب

من الأعماق صرخت إليك يا رب
نتأمل في الكتاب المقدس لا سيّما في العهد القديم. فبواقعة وردت في سفر النبي دانيال ( الفصل 13) وهي قصّة سوسنة العفيفة البريئة، زوجة يواقيم، أحد وجهاء اليهود والتي وقعت في مأزق خطير عاقبته فضيحة كبرى تنال من سمعتها والمحوكم عليها بالرجم، مع أنّها بريئة.
وذلك أنّ اليهود كانوا يأتون إلى بيت زوجها ويحتكمون إلى شيخين مكلّفين بالقضاء في دعاوى أفراد الشعب، وقد رأى كلّ منهما جمال سوسنة ووقع في إغراء فتنتها وأراد بها الشرّ. فكان كل منهما يأتي خلسةً إلى منزل زوجها، ليترقّبها لينال منها، ولم يقل أيّ منهما للآخر عمًّا في قلبه. وذات يوم تقابلا في الحديقة واعترف كلّ منهما عمّا يدور في داخله من الشرّ.
في ذات يوم كانت سوسنة في الحديقة تريد أن تغتسل فأرسلت جارتها لإحضار ما يلزمها، وأمرتها بإغلاق أبواب الحديقة. ولمّا ذهبت الجاريتان، خرج الشيخان وفاجآ المرأة وطلبا منها الشرّ وهدّداها بالافتراء عليها أنّهما رأياها مع شابّ، فُيحكم عليها بالرجم فتخسر حياتها وسمعتها. ولكنّها رفضت واستغاثت. فأسرع الشيخان بفتح أبواب الحديقة وصرخا وافتريا بأنّهما رأياها مع شابّ قام بالهرب عند الصراخ، ووجّها إلى المرأة تهمة الزنى وطالبا برجمها. وهي الآن في مأزق عظيم !
بقي شاهد وحيد يعلم براءتها وهو اللّه العليّ القدير، فاحص القلوب والكِلى. وإليه لجأت سوسنة في محنتها والتمست النجاة. لقد كان واضحاً أنّه لا أمل من قبل البشر، فكل الظروف ضدّها والحكم عليها بالرجم ضمن المنطق اليهودي البشري، لكن اللّه كان له تدبير آخر.
ولأنّه لا ينسى من يحاول أن يُطبق شريعته في قلبه، أقام دانيال النبيّ. فأعلن أمام الشعب براءة المرأة، بعد أن كانت في طريقها إلى تنفيذ الرجم عليها. طلب النبيّ إعادة المحكمة وأخذ يستجوب كلاً من الشيخين، بعد أن أبعدهما الواحد عن الآخر، وسأل كلاً منهما أمام الشعب: تحت أي شجرة وقعت الحادثة؟ فتضاربت أقوالهما ووضح الافتراء وانكشفت شهادة الزور وظهرت براءة سوسنة.
هكذا يوضّح لنا اللّه أن تلك الصرخة التي إستغاثت بها لم تكن عقيمة، وأنّ صرختها إلى الرب سُمعت.
وهكذا، نمرّ نحنُ أيضاً بمواقف وأزمات تبدو بلا حل ّ، ونجد أنفسنا في مأزق يُعَدّ من الناحية البشرية طريقاً مسدوداً لا أمل للخروج منه. يظل الإنسان يتخبّط في مشكلته، محاولاً إيجاد حلّ لها بنور عقله ومهارته وتفكيره، ولكنّه لا يتوصّل إلى أيّ حلّ ينقذه. فما دام يحاول بعلمه وبإمكانيّاته البشريّة، فإنّه لا يجد أيّ مخرج، ويظلّ في الطريق المسدود، فاقداً كلّ أمل بشريّ، وفي هذا الوقت الذي تعجز فيه الإمكانيّات البشريّة، يتدخل اللّه ويباشر عمله؟
سوسنة تمثل أمام دانيال النبي، للرسّام Sebastiano Ricci

هذا هو مفهوم قضيّة الإيمان الذي يقوم على التمسّك باللّه والاستسلام له، حين تعجز قوانا ويعجز كلّ من حولنا وتفشل كلّ إلإمكانيّات البشريّة في إيجاد مخرج يُنقذنا من طريقنا المسدود ويقدّم الحلّ لمشكلتنا التي لا حلّ بشرياً لها.
اللّه قريب وهو يسمعني حين أدعوه، وليست صلاتي صرخة في بطن واد، أو نداءً في صحراء، بل اللّّه يسمع كلّ همس أدعوه به. وبهذا الإيمان لا تكون صلاتنا مجرّد صرخة ألم وأنين، بل نداء ثقة ويقين، صادرا بهدوء واطمئنان.
بعد هذا الكلام كله، نستخلص كلمة ألا وهي ( منطق الرجاء) من السهل على أيّ إنسان أن يعيش الأمل والتفاؤل، ما دامت الأمور تسير بطريقة طبيعيّة وعلى ما يرام. ولكن أيّ فضل له؟ كما قال السيد المسيح:" هل الوثنيون يفعلون ذلك" ؟ .أمّا تتعثّر الأمور، ويخيّم الليل بظلامه الدامس حولي، وعندما أكون في مأزق لا أجد له مخرجاً، فهنا يكون الرجاء الحقيقيّ. وقد تبدو كلمتَي الأمل والرجاء كلمتين مترادفتين. وهنا أريد أن أُميّز بين كلمة ( espoir ) وكلمة ( espérance) فأربط كلمة أمل بكلمة (espoir) وكلمة رجاء بكلمة (espérance) فما الفرق بين الأمل والرجاء؟
فالأمل فهو نزعة بشريّة وفضيلة بشريّة، مبنيّة على أسباب ومؤشّرات ودواع تمهّد لكلّ مشكلة معيّنة. وبالتالي فهي تخلق في الإنسان شعوراً بالطمأنينة والارتياح، وهذا الأمل هو على مستوى بشريّ. أمّا الرجاء فهو يبدأ عندما يختفي الأمل، وهو مبنيّ على إيمان بحت بقدرة اللّه ، أي أنّ اللّه هو مصدره، ولذلك فالرجاء هو على مستوى إلهي.
رجائي في هذه الحياة هو السيد المسيح.