سلام ونعمة://
التوبة طريق القداسة
الأنبا رافائيل
عوامل عديدة تشابكت لتفسد الفكر الأرثوذكسى الآبائى من جهة حياتنا مع الله وعلاقتنا به، ولعل أبرز هذه العوامل "النزعة الفردية فى الخلاص" التى يتبناها المنهج البروتستانتى أو كذلك "النسكيات المتطرفة" التى كانيتبناها المنهج الكاثوليكى الغربى، ولعل أهم الموضوعات التى أصابها الغموض والانحراف موضوع "توبتنا"، وأزعم أننى أستطيع تلخيص ما يدور بذهن الشباب من جهة التوبة فى هذه النقاط:
1- أن التوبة هى رجعة حاسمة عن الخطية يعقبها قداسة السيرة بدون سقطات.
2- أن الرجوع للخطية بعد الاعتراف معناه أن توبتى لم تكن حقيقية وهى غير مقبولة.
3- أن ارتباطى بالمسيح يستلزم قداسة السيرة.. وهذه القداسة تحتاج مجهوداً عنيفاً واستمرارية فى عدم الخطأ.
4- بما أننى - عملياً - لا أستطيع ألا أخطئ، وليس لدى مقدرة على السلوك فى نسكيات عنيفة.. لذلك فـإما.
أن:
صديقى الشاب..
لعلك توافقنى فى هذا الزعم.. ولكن دعنا الآن نتلمس مفهوم التوبة فى ضمير الكنيسة كما صاغته فى نصوص الليتورجيا (القداس).. لعلنا نخرج منه بتحديدات تنير أمامنا الطريق فيسهل، ولنبحر معاً فى أعماق أنهار القداس الإلهى إذ أن القداس - فى الحقيقة - يحوى منهج توبة متكامل بفكر أرثوذكسى أبائى أصيل.. لأول وهلة سنلحظ أن:
أ- أعيش بقلبين أحدهما يليق بالكنيسة ويكون لى صورة التقوى فيها دون قوتها. والأخر يليق بحياتى الخاصة وبالعالم وأوافقه على كل انحرافاته.
ب- أو أنه لا فائدة ولنترك الكنيسة لمن يستطيع، أما أنا "فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت".
أن:
1- التوبة هى عمل مستمر ومتكرر ومدى الحياة:
يبدأ الكاهن القداس بصلاة سرية يرددها أثناء فرش وتجهيز المذبح فيقول "أيها الرب العارف قلب كل أحد، القدوس المستريح فى قديسيه. الذى بلا خطية وحده، القادر على مغفرة الخطايا. أنت يا سيد تعلم أننى غير مستحق لهذه الخدمة المقدسة التى لك، وليس لى وجه أن اقترب وأفتح فمى أمام مجدك المقدس، بل ككثرة رأفتك اغفر لى أنا الخاطئ وامنحنى أن أجد نعمة ورحمة فى هذه الساعة وأرسل لى قوة من العلاء.. الخ".
تأمل كيف تنضح هذه الصلاة بالتوبة والانسحاق والشعور بالخزى بسبب كثرة الخطايا.. ومن الذى يقدمها؟ أنه الكاهن المحسوب فى ضمير الكنيسة أنه شفيع فى المذنبين أمام الله..
ثم يستمر الكاهن فى تقديم توبة عميقة منسحقة طوال القداس حتى يختمه بهذه الصلوة قبل التناول: ".. لا تدخلنا فى تجربة، ولا يتسلط علينا كل إثم، لكن نجنا من الأعمال غير النافعة، وأفكارها وحركاتها ومناظرها وملامسها، والمجرب أبطله، واطرده عنا، وانتهر أيضاً حركاته المغروسة فينا، وأقطع عنا الأسباب التى تسوقنا إلى الخطية، ونجنا بقوتك المقدسة.. الخ" أنك تستطيع أن تلمس روح التوبة المتغلغلة ليست فى هذه الصلوة فقط بل فى كل صلوات القداس الإلهى، وكأن القداس قد وضع فقط للتائبين، ما يعنينى هنا أن:
1- استمرار صلوات التوبة طوال القداس إنما يشير إلى ضرورة استمرارية التوبة فى حياتنا.
2- أن يبدأ القداس وينتهى، معناه أن التوبة هى عمل يستمر مدى الحياة، منذ أن أدرك ذاتى وحتى الانتقال إلى السماء.
3- تكرار القداس يومياً بنفس النمط ونفس الصلوات يدل على أن التوبة - فى ضمير الكنيسة - هى عمل متكرر يومياً، فلو كانت التوبة هى مجرد مرحلة يعقبها قداسة بدون سقطات، لصار فى الكنيسة نوعان من القداسات أحدهما للمبتدئين التائبين ويكون مليئاً بعبارات التوبة والانسحاق، والآخر للمتقدمين القديسين (الذين لا يخطئون) ويكون مليئاً بالحب والتسبيح والفرح، ولا مجال فيه للتوبة والانسحاق.
إننا نتطلع أحياناً إلى يوم نتحرر فيه تماماً من الضعفات والسقطات ونعيش القداسة فى ملئها وبهجتها وعندما يتأخر هذا اليوم نصاب بالإحباط واليأس والفشل.. غير عالمين أنه سيأتى ولكن فى الدهر الآتى.. أما فى هذا الدهر فإننا فى زمان التوبة والنمو لذلك فالكنيسة الملهمة رتبت لنا توبة فى كل يوم حاسبة فى ضميرها إننا ضعفاء ساقطون لأنه "ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران" مرد إنجيل الصوم الكبير.
ليست الكنيسة مكاناً للقديسين فقط، ولكنها مستشفى للتائبين أيضاً.
إننا ندخلها خطاة فى كل يوم فتبررنا بدم المسيح الذى تستجلبه لنا بالتوبة والاعتراف والحل.. لاحظ هذا الحوار الذى يدور بين الكاهن والشماس والشعب فى نهاية كل صلاة طقسية (خاصة القداس).
يقول الشماس : احنوا رؤوسكم للرب (وهى دعوة للتوبة والاعتراف السرى أما المسيح فى حضور الكنيسة كلها).
يرد الشعب : أمامك يا رب أى ها نحن أمامك منحنين معترفين بذنوبنا وآثامنا وميولنا الرديئة.
يقول الشماس : ننصت بخوف الله (مشيراً إلى قرار خطير سيصدر بعد قليل يجب أن ننصت لنسمع بمخافة).
يقول الكاهن : السلام للكل (أى أن هذا القرار الخطير سيحمل سلاماً للكنيسة كلها).
يرد الشعب : ولروحك أيضاً.
ثم فى هدوء وصمت عميق يحنى كل مصلى كالأسلة رأسه ويقرع صدره ويعترف أمام الله بخطاياه.. والكاهن كذلك يتوب عن نفسه وعن الشعب ثم يقرأ عليهم التحليل.
لاحظ أن:
توبة + اعتراف + تحليل = غفران
وهذا يدفع الشماس لأن يصرخ (خلصت حقاً ومع روحك أيضاً) شاهداً للكاهن والشعب أن خلاصنا قد حضر بسبب الغفران.. فيفرح الشعب ويتهلل ويصرخ بنغم الفرح قائلاً:
آمين كيرياليصون كيرياليصون كيرياليصون
وفى القداس خاصة يكمل الكاهن الحوار قائلاً: القدسات للقديسين (أى هذا الجسد والدم يأخذهما فقط القديسون التائبون الآن) فتصرخ الكنيسة بانكسار ووداعة: واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس (معترفة بذلك أن واحداً قدوس هو الله وأن كل قداسة فينا هى مجرد انعكاسات لقداسته فى وجوهنا).. وعلى هذا الرجاء وبهذه الثقة نتقدم للتناول من الأسرار المحيية.. ونخرج
من الكنيسة مبررين بدم المسيح.. ولكن
غير معصومين من الخطأ.. لذلك فنحن
مدعوون للعودة للكنيسة مراراً وتكراراً.. ندخل خطاة ونخرج متبررين.. وبتكرار التوبة
والعودة للمسيح تضمحل الخطية من أعضائنا ويزداد الاشتياق للمسيح وطهارته.. ولكننا
سنظل خطاة وسيظل المسيح (الذى بلا خطية وحده، القادر على مغفرة الخطايا) مهما
ترقينا فى الفضيلة والحب والالتصاق بالمسيح فنحن "تراب ورماد".
لكن بينما أنا خاطئ متعثر فى خطواتى، وميولى الرديئة تدفعنى للسقوط، أجد الكنيسة تدعونى قديساً.
القداسات للقديسين، لأن "أحباء الله مدعوين قديسين" (رؤ 1:7).
فكيف يكون ذلك؟
الإجابة هى الركيزة الثانية فى مفاهيم التوبة بالفكر الأرثوذكسى:
2- التوبة هى عمل كل الكنيسة بكل أعضائها:
فلا يوجد فى الكنيسة فئتان: خطاة مبتدئون، وقديسون كاملون، بل الكل خطاة قديسون لأن التوبة تجعل الزانى بتولاً، والخاطئ قديساً.
لا تتخيل - صديقى الشاب - أنك وحدك تخطئ.. أبداً.. كلنا نخطئ وكلنا نحتاج التوبة.. اسمع الأب الكاهن يصلى فى القداس قائلاً: أذكر يا رب ضعفى أنا المسكين، وأغفر لى خطاياى الكثيرة، وحيث كثر الإثم فلتكثر هناك نعمتك؟ ومن أجل خطاياى خاصة، ونجاسات قلبي لا تمنع شعبك من نعمة روحك القدوس. حاللنا وحالل كل شعبك من كل خطية ومن كل لعنة ومن كل جحود ومن كل يمين كاذبة ومن كل ملاقات الهراطقة الوثنيين أنعم علينا يا سيدنا بعقل وقوة وفهم لنهرب إلى التمام من كل أمر ردئ للمضاد.. الخ.
لو كان الحال أن الحياة الروحية مفصولة إلى مرحلتين: التوبة والقداسة لكان من البديهى أن يكون الكاهن قد أنتهى من مرحلة التوبة؟
ولا حاجة له أن يصلى مثل هذه الصلوات المفعمة بالانكسار والتذلل وليتركها للخطاة المبتدئين.
ولكن فكر الكنيسة هو أن التوبة والقداسة صنوان يسيران معاً، فأنا خاطئ لأننى إنسان ضعيف، وأنا قديس لأن المسيح يقدسنى بنعمته "أن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطاينا ويطهرنا من كل إثم" (1يو 1: 8، 9) نحن خطاة (هذا طبع) والمسيح يطهرنا (لأنه أمين وعادل) فلا تظن صديقى أن القداسة بعيدة المنال أو أنك غريب عن القديسين، بل أنت وأنا والأب الكاهن وكل الكنيسة تائبون.. ورجوعنا للخطية لا يلغى انتمائنا للمسيح وبنوتنا له، فالأحرى أن ننتبه سريعاً ونقوم من سقطاتنا بدون يأس.. متمثلين بذلك الراهب الحاذق الذى قال للشيطان "ألست أنت تضرب مرذبة" العبرة بالنهاية "والذى يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص".
والأكثر من هذا أنك تسمع الأب الكاهن يطلب عن خطاياه وعن جهالات الشعب "أعط يا رب أن تكون ذبيحتنا مقبولة أمامك عن خطاياى وجهالات شعبك" حاسب خطايا الشعب أنها جهالات خطيته.
وعندما يتقدم الكاهن ليغسل يديه قبل تقدمة الحمل، وقبل البدء فى القداس لا يكون هدفه فقط نظافة اليدين، وإنما نظافة القلب من الخطية والشهوات، لأنه يصحب الغسيل بالصلاة "تنضح على بزوفاك فأطهر، تغسلنى فأبيض أكثر من الثلج...".
لقد جاء المسيح لأجل الخطاة ليدعوهم للتوبة.. والأبرار (فى أعين ذواتهم ليس لهم نصيب فى عمل المسيح وعندما أدركت الكنيسة هذه الحقيقة سلمتنا - أولادها - سر التوبة مدى الحياة لنكون دائماً فى مجال عمل رب المجد.. فإذا كنت خاطئاً فلا تيأس بل أعرف أنك من صميم عمل المسيح لأنه قال: "لم أت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة.. لأنه.. لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى".
وإذا اعترضت بأن توبتك ضعيفة وأنك تميل إلى الخطية والسقوط فأعلم أن:
3- الغفران يعتمد على قوة السر وأمانة الله:
لذلك قيل عن سر التناول "السر العظيم الذى للخلاص" (صلاة الاستعداد)، "السر العظيم الذى للتقوى" (الرشومات) ويخاطب الكاهن الله قائلاً: "اللهم معطى النعمة، مرسل الخلاص، الذى يفعل كل شئ فى كل أحد".. فثق صديقى، أن الله "رحمته قد ثبتت علينا" (مرد اسباتير)، وأن الله يرفع هناك خطايا الشعب من قبل المحرقات "الجسد والدم" ورائحة البخور "الصلوات" (مرد الأبركسيس).. وكل الكنيسة تصرخ بهذا المرد الرائع "كرحمتك يا رب ولا كخطايانا" ولا نستطيع أن ننسى الإعلان المقدس عن الجسد والدم أنه "يعطى عنا خلاص وغفراناً للخطايا".
وهناك حركة طقسية غاية فى الإبداع تطمئنك أن خطاياك قد ألقيت على دم المسيح.. فالكاهن يغطى يديه بلفافتين الأولى على يده اليسرى تمثل الخطايا والضعفات، والثانية على يده اليمنى تمثل بر المسيح (لأنه أخذها من فوق الحمل) وقبلما يرشم الكاهن الشعب بكلمة أجيوس (قدوس) يبدل اللفائف ويضع ما كانت بيده اليسرى على الكأس ويمسك ما كانت على الكأس بيده اليمنى ليرشم بها الشعب، معلناً بذلك أن خطايانا جميعاً قد ألقيت على الدم المقدس وأننا ننال البر بدم المسيح (اللفافة التى على الكأس) راشماً إيانا بكلمة قدوس ليقدسنا.
حقيقة أن توبتنا ضعيفة ومريضة ولكن لنا رجاء فى الله "الذى يحى الموتى ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة" (رؤ 4: 3) وتصرخ مع "أبو الولد" بدموع "أؤمن يا سيد فأعن عدم إيمانى" (مز 9: 24) فلو كانت توبتى عدما، فأومن أنك ستعمل فيها عجباً وتخلصنى بنعمتك لأننى عاجز بجهدى ولكننى لن أيأس من رحمتك.
لذلك فإن التوبة الأرثوذكسية فيها:
4- ينتفى الإحساس بالإنجاز والبر الذاتى:
لأنه ليس بمقدرتى ومهارتى، ولا بإرادتى بل بالكنيسة وبالكاهن وبالسر.. لذلك يتكرر طوال القداس المرد الشهير "كيريليصون - يا رب أرحم" عالمين أننا مهما تقدسنا أو تبررنا فنحن بحاجة شديدة لراحة الرب.. ودائماً تسمع التعبير "نحن عبيدك الخطاة غير المستحقين.."، "نحن الأذلاء غير المستحقين.."، "ضعفى أنا المسكين" بينما نشكر الله فى انكسار أنه جعلنا أهلا الآن أن نقف فى هذا الموضع المقدس..، ولأنه "جعلنا مستحقين" وبروح العشار التائب نصرخ "نسألك يا سيدنا
لا تردنا إلى خلف.. لأننا لا نتكل على برنا بل على رحمتك، هذه التى بها أحييت جنسنا.. "صك الحجاب".. وتستطيع أن تستشف هذه الروح المنسحقة طوال صلوات القداس لأن الكنيسة المقدسة قد أدركت بروح الله أن "القلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله".
أن التوبة الأرثوذكسية هى عملنا الوحيد المتكرر طوال الحياة واللازم لكل أعضاء الكنيسة، وهى ستجلب لنا غفران خطايانا بدم المسيح ونعمته المجانية اعتماداً على أمانته وحبه لذلك فالتائب المسيحى لا ينتفخ ولا يتفاخر، بل يظل طوال عمره محتاجاً لراحة الله وغفرانه.
ربى يسوع الغالى القدوس لن أيأس بعد
اليوم، ولن استهتر أيضاً.. لن أتوانى عن القيام عقب السقوط، وكذلك لن أتوانى عن دعوتك لحمايتى من السقوط إكراماً لجسدك واحتراماً لكنيستك.. واثقاً أنه بكثرة غفرانك ستضمحل الخطية من أعضائى، وسأثر فى الفضيلة حتماً وسيجئ اليوم بنعمتك الذى فيه يزداد لهيب حبك فى قلبى أعلى من لهيب الشهوة فى جسدى.. "نفس تنتظر الرب أكثر من المراقبين الصبح" (مز130: 6).
لك المجد أمين
التوبة طريق القداسة
الأنبا رافائيل
عوامل عديدة تشابكت لتفسد الفكر الأرثوذكسى الآبائى من جهة حياتنا مع الله وعلاقتنا به، ولعل أبرز هذه العوامل "النزعة الفردية فى الخلاص" التى يتبناها المنهج البروتستانتى أو كذلك "النسكيات المتطرفة" التى كانيتبناها المنهج الكاثوليكى الغربى، ولعل أهم الموضوعات التى أصابها الغموض والانحراف موضوع "توبتنا"، وأزعم أننى أستطيع تلخيص ما يدور بذهن الشباب من جهة التوبة فى هذه النقاط:
1- أن التوبة هى رجعة حاسمة عن الخطية يعقبها قداسة السيرة بدون سقطات.
2- أن الرجوع للخطية بعد الاعتراف معناه أن توبتى لم تكن حقيقية وهى غير مقبولة.
3- أن ارتباطى بالمسيح يستلزم قداسة السيرة.. وهذه القداسة تحتاج مجهوداً عنيفاً واستمرارية فى عدم الخطأ.
4- بما أننى - عملياً - لا أستطيع ألا أخطئ، وليس لدى مقدرة على السلوك فى نسكيات عنيفة.. لذلك فـإما.
أن:
صديقى الشاب..
لعلك توافقنى فى هذا الزعم.. ولكن دعنا الآن نتلمس مفهوم التوبة فى ضمير الكنيسة كما صاغته فى نصوص الليتورجيا (القداس).. لعلنا نخرج منه بتحديدات تنير أمامنا الطريق فيسهل، ولنبحر معاً فى أعماق أنهار القداس الإلهى إذ أن القداس - فى الحقيقة - يحوى منهج توبة متكامل بفكر أرثوذكسى أبائى أصيل.. لأول وهلة سنلحظ أن:
أ- أعيش بقلبين أحدهما يليق بالكنيسة ويكون لى صورة التقوى فيها دون قوتها. والأخر يليق بحياتى الخاصة وبالعالم وأوافقه على كل انحرافاته.
ب- أو أنه لا فائدة ولنترك الكنيسة لمن يستطيع، أما أنا "فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت".
أن:
1- التوبة هى عمل مستمر ومتكرر ومدى الحياة:
يبدأ الكاهن القداس بصلاة سرية يرددها أثناء فرش وتجهيز المذبح فيقول "أيها الرب العارف قلب كل أحد، القدوس المستريح فى قديسيه. الذى بلا خطية وحده، القادر على مغفرة الخطايا. أنت يا سيد تعلم أننى غير مستحق لهذه الخدمة المقدسة التى لك، وليس لى وجه أن اقترب وأفتح فمى أمام مجدك المقدس، بل ككثرة رأفتك اغفر لى أنا الخاطئ وامنحنى أن أجد نعمة ورحمة فى هذه الساعة وأرسل لى قوة من العلاء.. الخ".
تأمل كيف تنضح هذه الصلاة بالتوبة والانسحاق والشعور بالخزى بسبب كثرة الخطايا.. ومن الذى يقدمها؟ أنه الكاهن المحسوب فى ضمير الكنيسة أنه شفيع فى المذنبين أمام الله..
ثم يستمر الكاهن فى تقديم توبة عميقة منسحقة طوال القداس حتى يختمه بهذه الصلوة قبل التناول: ".. لا تدخلنا فى تجربة، ولا يتسلط علينا كل إثم، لكن نجنا من الأعمال غير النافعة، وأفكارها وحركاتها ومناظرها وملامسها، والمجرب أبطله، واطرده عنا، وانتهر أيضاً حركاته المغروسة فينا، وأقطع عنا الأسباب التى تسوقنا إلى الخطية، ونجنا بقوتك المقدسة.. الخ" أنك تستطيع أن تلمس روح التوبة المتغلغلة ليست فى هذه الصلوة فقط بل فى كل صلوات القداس الإلهى، وكأن القداس قد وضع فقط للتائبين، ما يعنينى هنا أن:
1- استمرار صلوات التوبة طوال القداس إنما يشير إلى ضرورة استمرارية التوبة فى حياتنا.
2- أن يبدأ القداس وينتهى، معناه أن التوبة هى عمل يستمر مدى الحياة، منذ أن أدرك ذاتى وحتى الانتقال إلى السماء.
3- تكرار القداس يومياً بنفس النمط ونفس الصلوات يدل على أن التوبة - فى ضمير الكنيسة - هى عمل متكرر يومياً، فلو كانت التوبة هى مجرد مرحلة يعقبها قداسة بدون سقطات، لصار فى الكنيسة نوعان من القداسات أحدهما للمبتدئين التائبين ويكون مليئاً بعبارات التوبة والانسحاق، والآخر للمتقدمين القديسين (الذين لا يخطئون) ويكون مليئاً بالحب والتسبيح والفرح، ولا مجال فيه للتوبة والانسحاق.
إننا نتطلع أحياناً إلى يوم نتحرر فيه تماماً من الضعفات والسقطات ونعيش القداسة فى ملئها وبهجتها وعندما يتأخر هذا اليوم نصاب بالإحباط واليأس والفشل.. غير عالمين أنه سيأتى ولكن فى الدهر الآتى.. أما فى هذا الدهر فإننا فى زمان التوبة والنمو لذلك فالكنيسة الملهمة رتبت لنا توبة فى كل يوم حاسبة فى ضميرها إننا ضعفاء ساقطون لأنه "ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران" مرد إنجيل الصوم الكبير.
ليست الكنيسة مكاناً للقديسين فقط، ولكنها مستشفى للتائبين أيضاً.
إننا ندخلها خطاة فى كل يوم فتبررنا بدم المسيح الذى تستجلبه لنا بالتوبة والاعتراف والحل.. لاحظ هذا الحوار الذى يدور بين الكاهن والشماس والشعب فى نهاية كل صلاة طقسية (خاصة القداس).
يقول الشماس : احنوا رؤوسكم للرب (وهى دعوة للتوبة والاعتراف السرى أما المسيح فى حضور الكنيسة كلها).
يرد الشعب : أمامك يا رب أى ها نحن أمامك منحنين معترفين بذنوبنا وآثامنا وميولنا الرديئة.
يقول الشماس : ننصت بخوف الله (مشيراً إلى قرار خطير سيصدر بعد قليل يجب أن ننصت لنسمع بمخافة).
يقول الكاهن : السلام للكل (أى أن هذا القرار الخطير سيحمل سلاماً للكنيسة كلها).
يرد الشعب : ولروحك أيضاً.
ثم فى هدوء وصمت عميق يحنى كل مصلى كالأسلة رأسه ويقرع صدره ويعترف أمام الله بخطاياه.. والكاهن كذلك يتوب عن نفسه وعن الشعب ثم يقرأ عليهم التحليل.
لاحظ أن:
توبة + اعتراف + تحليل = غفران
وهذا يدفع الشماس لأن يصرخ (خلصت حقاً ومع روحك أيضاً) شاهداً للكاهن والشعب أن خلاصنا قد حضر بسبب الغفران.. فيفرح الشعب ويتهلل ويصرخ بنغم الفرح قائلاً:
آمين كيرياليصون كيرياليصون كيرياليصون
وفى القداس خاصة يكمل الكاهن الحوار قائلاً: القدسات للقديسين (أى هذا الجسد والدم يأخذهما فقط القديسون التائبون الآن) فتصرخ الكنيسة بانكسار ووداعة: واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس (معترفة بذلك أن واحداً قدوس هو الله وأن كل قداسة فينا هى مجرد انعكاسات لقداسته فى وجوهنا).. وعلى هذا الرجاء وبهذه الثقة نتقدم للتناول من الأسرار المحيية.. ونخرج
من الكنيسة مبررين بدم المسيح.. ولكن
غير معصومين من الخطأ.. لذلك فنحن
مدعوون للعودة للكنيسة مراراً وتكراراً.. ندخل خطاة ونخرج متبررين.. وبتكرار التوبة
والعودة للمسيح تضمحل الخطية من أعضائنا ويزداد الاشتياق للمسيح وطهارته.. ولكننا
سنظل خطاة وسيظل المسيح (الذى بلا خطية وحده، القادر على مغفرة الخطايا) مهما
ترقينا فى الفضيلة والحب والالتصاق بالمسيح فنحن "تراب ورماد".
لكن بينما أنا خاطئ متعثر فى خطواتى، وميولى الرديئة تدفعنى للسقوط، أجد الكنيسة تدعونى قديساً.
القداسات للقديسين، لأن "أحباء الله مدعوين قديسين" (رؤ 1:7).
فكيف يكون ذلك؟
الإجابة هى الركيزة الثانية فى مفاهيم التوبة بالفكر الأرثوذكسى:
2- التوبة هى عمل كل الكنيسة بكل أعضائها:
فلا يوجد فى الكنيسة فئتان: خطاة مبتدئون، وقديسون كاملون، بل الكل خطاة قديسون لأن التوبة تجعل الزانى بتولاً، والخاطئ قديساً.
لا تتخيل - صديقى الشاب - أنك وحدك تخطئ.. أبداً.. كلنا نخطئ وكلنا نحتاج التوبة.. اسمع الأب الكاهن يصلى فى القداس قائلاً: أذكر يا رب ضعفى أنا المسكين، وأغفر لى خطاياى الكثيرة، وحيث كثر الإثم فلتكثر هناك نعمتك؟ ومن أجل خطاياى خاصة، ونجاسات قلبي لا تمنع شعبك من نعمة روحك القدوس. حاللنا وحالل كل شعبك من كل خطية ومن كل لعنة ومن كل جحود ومن كل يمين كاذبة ومن كل ملاقات الهراطقة الوثنيين أنعم علينا يا سيدنا بعقل وقوة وفهم لنهرب إلى التمام من كل أمر ردئ للمضاد.. الخ.
لو كان الحال أن الحياة الروحية مفصولة إلى مرحلتين: التوبة والقداسة لكان من البديهى أن يكون الكاهن قد أنتهى من مرحلة التوبة؟
ولا حاجة له أن يصلى مثل هذه الصلوات المفعمة بالانكسار والتذلل وليتركها للخطاة المبتدئين.
ولكن فكر الكنيسة هو أن التوبة والقداسة صنوان يسيران معاً، فأنا خاطئ لأننى إنسان ضعيف، وأنا قديس لأن المسيح يقدسنى بنعمته "أن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطاينا ويطهرنا من كل إثم" (1يو 1: 8، 9) نحن خطاة (هذا طبع) والمسيح يطهرنا (لأنه أمين وعادل) فلا تظن صديقى أن القداسة بعيدة المنال أو أنك غريب عن القديسين، بل أنت وأنا والأب الكاهن وكل الكنيسة تائبون.. ورجوعنا للخطية لا يلغى انتمائنا للمسيح وبنوتنا له، فالأحرى أن ننتبه سريعاً ونقوم من سقطاتنا بدون يأس.. متمثلين بذلك الراهب الحاذق الذى قال للشيطان "ألست أنت تضرب مرذبة" العبرة بالنهاية "والذى يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص".
والأكثر من هذا أنك تسمع الأب الكاهن يطلب عن خطاياه وعن جهالات الشعب "أعط يا رب أن تكون ذبيحتنا مقبولة أمامك عن خطاياى وجهالات شعبك" حاسب خطايا الشعب أنها جهالات خطيته.
وعندما يتقدم الكاهن ليغسل يديه قبل تقدمة الحمل، وقبل البدء فى القداس لا يكون هدفه فقط نظافة اليدين، وإنما نظافة القلب من الخطية والشهوات، لأنه يصحب الغسيل بالصلاة "تنضح على بزوفاك فأطهر، تغسلنى فأبيض أكثر من الثلج...".
لقد جاء المسيح لأجل الخطاة ليدعوهم للتوبة.. والأبرار (فى أعين ذواتهم ليس لهم نصيب فى عمل المسيح وعندما أدركت الكنيسة هذه الحقيقة سلمتنا - أولادها - سر التوبة مدى الحياة لنكون دائماً فى مجال عمل رب المجد.. فإذا كنت خاطئاً فلا تيأس بل أعرف أنك من صميم عمل المسيح لأنه قال: "لم أت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة.. لأنه.. لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى".
وإذا اعترضت بأن توبتك ضعيفة وأنك تميل إلى الخطية والسقوط فأعلم أن:
3- الغفران يعتمد على قوة السر وأمانة الله:
لذلك قيل عن سر التناول "السر العظيم الذى للخلاص" (صلاة الاستعداد)، "السر العظيم الذى للتقوى" (الرشومات) ويخاطب الكاهن الله قائلاً: "اللهم معطى النعمة، مرسل الخلاص، الذى يفعل كل شئ فى كل أحد".. فثق صديقى، أن الله "رحمته قد ثبتت علينا" (مرد اسباتير)، وأن الله يرفع هناك خطايا الشعب من قبل المحرقات "الجسد والدم" ورائحة البخور "الصلوات" (مرد الأبركسيس).. وكل الكنيسة تصرخ بهذا المرد الرائع "كرحمتك يا رب ولا كخطايانا" ولا نستطيع أن ننسى الإعلان المقدس عن الجسد والدم أنه "يعطى عنا خلاص وغفراناً للخطايا".
وهناك حركة طقسية غاية فى الإبداع تطمئنك أن خطاياك قد ألقيت على دم المسيح.. فالكاهن يغطى يديه بلفافتين الأولى على يده اليسرى تمثل الخطايا والضعفات، والثانية على يده اليمنى تمثل بر المسيح (لأنه أخذها من فوق الحمل) وقبلما يرشم الكاهن الشعب بكلمة أجيوس (قدوس) يبدل اللفائف ويضع ما كانت بيده اليسرى على الكأس ويمسك ما كانت على الكأس بيده اليمنى ليرشم بها الشعب، معلناً بذلك أن خطايانا جميعاً قد ألقيت على الدم المقدس وأننا ننال البر بدم المسيح (اللفافة التى على الكأس) راشماً إيانا بكلمة قدوس ليقدسنا.
حقيقة أن توبتنا ضعيفة ومريضة ولكن لنا رجاء فى الله "الذى يحى الموتى ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة" (رؤ 4: 3) وتصرخ مع "أبو الولد" بدموع "أؤمن يا سيد فأعن عدم إيمانى" (مز 9: 24) فلو كانت توبتى عدما، فأومن أنك ستعمل فيها عجباً وتخلصنى بنعمتك لأننى عاجز بجهدى ولكننى لن أيأس من رحمتك.
لذلك فإن التوبة الأرثوذكسية فيها:
4- ينتفى الإحساس بالإنجاز والبر الذاتى:
لأنه ليس بمقدرتى ومهارتى، ولا بإرادتى بل بالكنيسة وبالكاهن وبالسر.. لذلك يتكرر طوال القداس المرد الشهير "كيريليصون - يا رب أرحم" عالمين أننا مهما تقدسنا أو تبررنا فنحن بحاجة شديدة لراحة الرب.. ودائماً تسمع التعبير "نحن عبيدك الخطاة غير المستحقين.."، "نحن الأذلاء غير المستحقين.."، "ضعفى أنا المسكين" بينما نشكر الله فى انكسار أنه جعلنا أهلا الآن أن نقف فى هذا الموضع المقدس..، ولأنه "جعلنا مستحقين" وبروح العشار التائب نصرخ "نسألك يا سيدنا
لا تردنا إلى خلف.. لأننا لا نتكل على برنا بل على رحمتك، هذه التى بها أحييت جنسنا.. "صك الحجاب".. وتستطيع أن تستشف هذه الروح المنسحقة طوال صلوات القداس لأن الكنيسة المقدسة قد أدركت بروح الله أن "القلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله".
أن التوبة الأرثوذكسية هى عملنا الوحيد المتكرر طوال الحياة واللازم لكل أعضاء الكنيسة، وهى ستجلب لنا غفران خطايانا بدم المسيح ونعمته المجانية اعتماداً على أمانته وحبه لذلك فالتائب المسيحى لا ينتفخ ولا يتفاخر، بل يظل طوال عمره محتاجاً لراحة الله وغفرانه.
ربى يسوع الغالى القدوس لن أيأس بعد
اليوم، ولن استهتر أيضاً.. لن أتوانى عن القيام عقب السقوط، وكذلك لن أتوانى عن دعوتك لحمايتى من السقوط إكراماً لجسدك واحتراماً لكنيستك.. واثقاً أنه بكثرة غفرانك ستضمحل الخطية من أعضائى، وسأثر فى الفضيلة حتماً وسيجئ اليوم بنعمتك الذى فيه يزداد لهيب حبك فى قلبى أعلى من لهيب الشهوة فى جسدى.. "نفس تنتظر الرب أكثر من المراقبين الصبح" (مز130: 6).
لك المجد أمين