القلب الحنون



تحدثنا في مقال :

عن القلب الكبير المملوء بالتسامح والعفو..



و نريد اليوم أن نعرض للقلب الحنون المملوء بالشفقة والحب..

القلب القاسي، باستمرار يحطم ويهدم. وقسوته لا تشفق، ولا ترحم. إنه نار تأكل كل شيء، حتى نفسها..

أما القلب الحنون العطوف، فإنه يفيض رقة وإشفاقاً على كل أحد، حتى الذين لا يستحقون، وحتى على أعدائه..

و حنو الإنسان على غيره، قد يشمل الكائنات جميعاً.. فيحنو على العصفور المسكين، وعلى الفراشة الهائمة، وعلى الزهرة الذابلة.. بل قد يحنو على الوحش المفترس، مثل القديس الذي رأى أسداً يئن من شوكة في قدمه، فانحني وأراحه منها..



وقد يكون الحنو في نواح مادية أو جسدية، وقد يكون في نواح نفسية أو روحية.

و خلاصة الأمر أن القلب المملوء حناناً، يفيض بهذا الحنان في كل المجالات، وعلى الكل. فيشفق على الفقير المحتاج، وعلى المريض المتألم، كما يشفق على البائس والمتعب نفسياً، وعلى الساقط في الخطية المحتاج إلى من يأخذ بيده ليقيمه.

والحنان ليس مجرد عاطفة في القلب، وإنما تتحول فيه العاطفة إلى عمل جاد من أجل إراحة الغير.

إن الحنان النظري هو حنان قاصر، حنان ناقص، يحتاج إلى إثبات وجوده بالعمل. ولهذا قال القديس يوحنا الحبيب: "يا أخوتي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق".
إن القلب الحنون يمكنه أن يكسب الناس. أما القلب القاسي فينفرهم.



الناس يحتاجون إلى من يعطف عليهم، إلى من يأخذ بيدهم، إلى من يشجع الضعيف، ويقيم الساقط، ويفهم ظروف الناس واحتياجاتهم. وتكون له روح الخدمة فيخدم الكل، ويساعد الكل، ويعين الكل، ولا يحتقر ضعفات أحد.. كما قال الكتاب: "شددوا الركب المخلعة، وقوموا الأيدي المسترخية"..

وقيل عن السيد المسيح إنه كان: "لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ".. هذه الفتيلة المدخنة ربما تهب ريح فتشعلها، فتضئ مرة أخرى..

و كان حنوه يشمل الروح والجسد معاً. وهكذا قيل عنه في الإنجيل المقدس إنه: "كان يجول يصنع خيراً".. كان يشفق على الأرواح الساقطة فيقيمها بالتوبة، ويشفق على الأجساد المريضة فيشفيها.. "يطوف المدن والقرى: يكرز ببشارة الملكوت، ويشفى كل مرض وكل ضعف في الشعب".

أحضروا إليه مرة امرأة خاطئة قد ضبطت في ذات الفعل، وانتظروا منه أن يحكم برجمها حسبما تقضى الشريعة . أما هو فقال لهم: من منكم بلا خطية، فليرمها بأول حجر". وانصرف المطالبون برجمها لأنهم أيضاً خطاة. واطمأنت المرأة. فنظر إليها السيد المسيح وقال لها: وأنا أيضاً لا أدينك.. أذهبي بسلام. ولا تعودي تخطئ أيضاً".. هذا هو الحنو الذي يكسب القلب، ويقوده إلى التوبة.. فليتنا نحنو على الخطاة، لكي نكسبهم إلى الله.
إن الله يحنو علينا، حتى ونحن في عمق خطايانا. ومن دلائل حنوه أنه يستر ولا يكشف.



كم من أناس قد غطسوا في الشر حتى غطاهم، وما يزال الله يستر.. لم يكشفهم، ولم يفضحهم، ولم يعلن خطاياهم للناس.. لأنهم ربما لو انكشفوا لضاعوا، وانسد أمامهم الطريق إلى التوبة بعد فقدهم لثقة الناس.

إن القلب الحنون يستر خطايا الناس. لا يتحدث عنها، ولا يشهر بها، ولا يقسو في الحكم عليها.. بل قد يجد لهم عذراً، أو يخفف من المسئولية الواقعة عليهم.. وأن قابلهم لا يفقد توقيره لهم، معطياً إياهم فرصة للرجوع.. بل قد يضحى بنفسه من أجلهم، ويتحمل المسئولية عوضاً عنهم إن استطاع.

قال القديس يوحنا ذهبي الفم: "إن لم تستطع أن تمنع من يتكلم على أخيه بالسوء، فعلى الأقل لا تتكلم أنت".

"وأن لم تستطع أن تحمل خطايا الناس، وتنسبها إلى نفسك لكي تبررهم، فعلى الأقل لا تستذنبهم وتنشر خطاياهم".
أن القلب الحنون يعيش في مشاعر الناس. يتصور نفسه في مكانهم، ولا يجرح أحداً ويبرهن على نقاوة قلبه بعطفه على الكل..


وهو يعرف أن الطبيعة البشرية حافلة بالضعفات..


و إن أقوى الناس ربما تكون في حياته ثغرات..


و قد يسقط، إن اشتدت الحرب عليه، وأن تخلت عنه النعمة الحافظة..


لذلك ينظر إلى الناس في حنو، في قيامهم وفى سقوطهم أيضاً.


كان القديس يوحنا القصير إن سمع عن أحد أنه سقط، يبكى. فإن سئل في ذلك يقول: (معنى هذا أن الشيطان نشيط. وإن كان قد أسقط آخى اليوم، فقد يسقطني أنا غداً..). وهكذا – في أتضاع– لم يضع هذا القديس نفسه في مرتبة أسمى من غيره. وبكل حنو نظر إلى سقطة غيره، ونسبها إلى عمل الشيطان، لا إلى فساد طبع ذلك الأخ.


وبهذا كان أقوى المرشدين الروحيين هم الذين يفهمون النفس البشرية، ولا يقسون عليها في ضعفاتها.


إن القلب الحنون لا يعامل الناس بالعدل المطلق مجرداً، إنما يخلط بعدله كثيراً من الرحمة. ولا يجعل عدله عدلاً جافاً حرفياً يطبق فيه النصوص، بل أيضاً يقدر الظروف المحيطة، سواء كانت عوامل نفسية أو تربوية أو عوامل اجتماعية.


أما الذي يصب اللعنات على كل مخطئ، دون أن يقدر ظروفه أو يفحص حاله، فإنه قلب لا يرحم..


القلب الحنون لا يحكم على أحد بسرعة.. بل يعطى كل أحد فرصة للدفاع عن نفسه، ولتوضيح موقفه..


و هو أيضاً لا يكثر اللوم والتوبيخ، وإن وبخ، فإنما يكون ذلك بعطف وليس بقسوة. وقد يقدم لتوبيخه بكلمة تقدير أو كلمة حب، حتى يكون التوبيخ مقبولاً. وأن احتاج الأمر منه إلى حزم وشدة وعنف، فقد يفعل ذلك مضطراً. ولكنه في مناسبة أخرى يصلح الموقف، ويعالج بالحنو نفسية ذلك المخطئ.


والقلب الحنون لا يخجل أحداً، ولا يحرج أحداً. وقد يشير إلى الخطأ من بعيد، بألفاظ هادئة. وربما بطريق غير مباشر، وربما في السر وليس في أسماع الناس.


أما الذي يرجم الناس بالحجارة، فعليه أن يتروى، لئلا يكون بيته من زجاج. وليعلم أن كل الفضائل بدون المحبة ليست شيئاً. والمحبة تتأنى وتترفق. والحكمة هي أن نكسب الناس بالحنو، وأن لا نخسر الناس بالقسوة


منقوووول