والمقاعد الفالصو

أسامة غريب - التحرير

بات واضحا أن ما كان بين الحزب الوطنى وجماعة الإخوان قبل الثورة لم يكن تنافسا سياسيا وإنما منافسة ضارية على من يمزق قدرا أكبر من لحم الوطن.

وقد كان للحزب الوطنى مقدرة أكبر بحكم حيازته السلطة .. كان حزب مبارك وقياداته الإجرامية ينكلون بالإخوان المسلمين ويصادرون أموالهم ويغلقون شركاتهم ويسلطون عليهم المحاكم العسكرية لتصدر ضدهم الأحكام الجائرة، وكان الإعلام المنقوع فى البول يمارس الافتراء بحقهم ويلصق بهم كل نقيصة فى برامج منحطّة مثل «حالة حوار» وغيره، وذلك دون أن يتيح لهم أى فرصة للرد أو الدفاع عن النفس.

فى ذلك الوقت امتنع معظم الأقلام الشريفة عن انتقاد الإخوان، وشخصيا لم أسمح لنفسى أن أكتب ضدهم كلمة واحدة على الرغم مما بينى وبينهم من خلاف، لأننى رأيت أنه ليس من الأخلاق ممارسة الشجاعة عليهم بينما عصابة اللصوص الحاكمة تعصف بهم وتمنعهم من أبسط الحقوق.

ولكن اليوم يحق لمن تعاطف معهم ووقف قلمه مدافعا عنهم ومعارضا لقمعهم دون وجه حق أن يستدعى كل التراث البذىء للسيدة فتحية لموناتة وهو يخاطبهم، لأنهم أثبتوا عندما واتتهم الفرصة أنهم لا يخلصون لهذا الوطن كثيرا ولا يحملون لأهله إلا ما كان يحمله الحزب الوطنى لعموم المصريين، وأن قياداتهم لا تختلف كثيرا عن الذين يمضون بالبلد إلى الهاوية.

إن الشعب المصرى كان كريما إلى أقصى درجة عندما تعامل مع جماعة الإخوان مثلما تعامل مع المجلس العسكرى، وكلاهما لم يكن شديد الإخلاص للثورة.

الجماعة لحقت بالثورة بعد أن لاحت بشائر النصر، والمجلس استولى على الثورة بعد أن خلّصته من الوريث .. أما الشعب فقد تظاهر بأنهما جزء منه وأغمض عينيه عن حقيقتيهما التى لم يتأخرا فى الكشف عنها بعد ذلك .. وليعلم الإخوان أن أى مقاعد سيحصلون عليها فى الانتخابات كان يمكنهم أن يحصلوا على أزيد منها لو أنهم ساندوا المعتصمين فى ميادين التحرير.

لقد شاهدنا يوم الجمعة 18 نوفمبر، ذلك الذى أعقبه الاعتداء الوحشى على المعتصمين، قدرة الإخوان على الحشد وتمكنهم من إخراج كل الأنفار التى يملكون أزرارها إلى الميدان، ثم رأينا بعد ذلك كيف انشقت الأرض وابتلعتهم جميعا فى الوقت الذى كان فيه الكفار يفتحون النار ويطلقون الغاز السام على الشباب فى التحرير.

لقد وضع الإخوان أنفسهم فى مكان لم أكن أحب لهم أن يقفوا فيه عندما خافوا على المقاعد التى تنتظرهم ولم يبالوا بالدم الطاهر المسفوح على الأسفلت.

ولا يكاد المرء يصدق أن الفصيل الأساسى الذى لاقى الأهوال على يد المحاكم العسكرية فى عهد الرئيس المفضوح كان هو القوة السياسية الوحيدة التى لم تعارض محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى بعد الثورة، وذلك لأن أعضاء الجماعة أصبحوا بمنأى عن هذه المحاكمات، وكان هذا الأمر هو ما نعيبه على فصائل المعارضة قبل الثورة التى كثيرا ما أبدت الشماتة فى الإخوان وامتنعت عن التحرك لمساندة أسراهم فى سجون مبارك، وهذا نفسه ما عبته كثيرا على البابا شنودة الذى كان يبارك التنكيل بالإخوان فى حين يهرع لمساندة أى قبطى حتى لو كان قاتلا جنائيا! وها قد مرت الأيام ووجدنا الإخوان يتنكرون للقيم الإنسانية كما كان يفعل خصومهم فى السابق.

إننى وبكل الصدق لا أستطيع أن أفهم كيف استطاع أفراد الجماعة أن يلزموا أنفسهم بالسمع والطاعة التى حرمتهم من ممارسة إنسانيتهم حتى عندما تسبب هذا السمع وهذه الطاعة فى مقتل إخوان لهم فى ميادين الثورة! وكيف طاوعتهم قلوبهم أن يمتنعوا عن غوث بنى وطنهم والوقوف متفرجين على الشباب فى شارع محمد محمود وهو يضحى بعمره دفاعا عن حريتهم التى يستغلونها الآن فى تحقيق مصالحهم الضيقة.

ولعلهم يتصورون ويصورون للأتباع أن مصلحة الجماعة هى مصلحة الوطن وهو الأمر غير الثابت بالضرورة.

إن الجماعة قد أدركت بالغريزة أن الاعتصامات والمظاهرات العارمة فى أنحاء البلاد، تلك التى اندلعت منذ التاسع عشر من نوفمبر الماضى، سوف يكون من نتائجها الإيجابية اضطرار المجلس العسكرى إلى إجراء الانتخابات، وذلك حتى يثبت للجميع أنه جاد فى تسليم السلطة للمدنيين، على عكس تصور البُلْه من أن المظاهرات قد تؤجل الانتخابات.

وأدركت الجماعة أيضا أن المجلس العسكرى سيعمل على فرض الأمن فى أثناء الانتخابات ولن يكلف الداخلية بإحضار البلطجية الذين يقفون مستعدين للنزول واستباحة البلد، وذلك لأن البلطجة وأعمال العنف كانت من ضمن الخيارات السابقة على اندلاع الثورة الثانية، وبمقتضى ذلك الخيار كان سيتم ضرب كرسى فى الكلوب وتأجيل الانتخابات وبقاء المجلس العسكرى فى السلطة إلى أجل غير مسمى .. وهى الخطة التى قضى عليها شباب الثورة عندما اندفعوا إلى التحرير داعين إلى رحيل المجلس العسكرى، وعليه سعت السلطة لإجراء الانتخابات فى موعدها لأنها لم تكن تستطيع أن تواجه العالم إذا ما أجلت الانتخابات بعد المجزرة التى شاهدتها الدنيا كلها .. كل هذا كانت تعلمه الجماعة وقد وظفته واستفادت منه بقوة.

نرجو من الله أن يسامح الإخوان على اكتفائهم بالفرجة على مقتلة ميدان التحرير ومشاهدة قناصى الأعين دون أن يحركوا ساكنا، ولعلهم يجدون فى المقاعد البرلمانية السلوى عن فقد أعز ما يملك الإنسان.. ضميره!



منقوووول