مذكرات ثائر سلفى

بقلم د. عمرو فؤاد - المصرى اليوم

(هادى) شاب طيب من أسرة متدينة، يعمل طبيباً بأحد المستشفيات الكبرى، دائم النظر للأرض خجلاً، صاحب ابتسامة أخاذة تجذب كل من ينظر إلى وجهه المضىء. يقولون عنه إنه سلفى، دائما كره هذا التصنيف، نعم هو سلفى العقيدة والمنهج والأيديولوجيا، لكن كان يكره أن يضعوه فى هذا القالب، خاصة هؤلاء الذين لا يفهمون حقيقة المصطلحات وحقيقة معانيها.

(هادى) يعشق تراب هذا البلد، لم يصدق نفسه وهو يرى هذه الشرارة الثورية الأولى التى كسرت حواجز الخوف والسلبية لتخرج معلنة تحديها فى أواخر يناير، خرج معهم وكله يقين بأنّ شمس الحق قد بزغت أخيراً، وإن لم ترق أبداً له تلك الفتاوى التى سمعها من بعض مشايخه أن المشاركة لا تجوز، وأن الخروج على الحاكم محرم، وأن درء الفتنة واجب، وأن لزوم البيت أمانة.

(هادى) انبهر لاحتفال العالم كله بثورته، تهللت أساريره عندما أعلنوا له عن هذا الاستفتاء الشعبى الأول، وتهللت أكثر لما رأى حجم المشاركين فيه، حتى هؤلاء الذين لم يشاركوه التحرير قط، اختار الإجابة الرافضة للتعديلات، إيماناً منه بأنّ الثورة لا يكفيها تعديل ولا ينبغى تسليمها لغير صاحبها ولا يعقل إهداؤها لمن قد لا يصونها. انبهر لذلك كله، إلى أن اصطدم انبهاره بشيخه الذى كان أحد أسباب التزامه فى الصلاة بدرسه الأشهر (لماذا لا تصلى) عندما سمّى نتيجتها «انتصار غزوة الصناديق». تبدد انبهار (هادى) شيئاً فشيئاً بعد كلمة الشيخ (يعقوب) أستاذ الأساتيذ فى شرح سلاسل ابن القيّم وهو يخرج أمثاله عن دائرة المقبولين..!

(هادى) انفتح على المتغيرات السياسية النضرة التى انفتح عليها الجيل كله بعد الثورة، فى كل مكان نقاش وجدل واحتداد حول مستقبل مصر وبرلمانها ورئيسها، كان ينظر لذلك كله بعين الرضا وعلى شفتيه ابتسامة أمل لم تفارقه، فكر أن يوظف ثقافته ووعيه وطاقته فى عمل حزبى منظم، وبالفعل بدأ فى المقارنة بين الأحزاب لاختيار الأقرب لاتجاهاته، إلى أن تفاجأ بزميله ينقل له كلمة الشيخ (الحوينى) فى الأحزاب ومعارضته الاشتراك فيها لطالب العلم حتى لا تلوثه السياسة وخصومها غير الشرفاء. الشيخ الفذ الذى قلما فارق درساً له فى شروحات مصطلح الحديث قد أعيا (هادى) كثيراً قبل الذهاب لملء استمارة الحزب الوسطى الثورى المعتدل..!

(هادى) لم يفوّت مليونية من مليونيات الثورة مهما كان مطلبها، كان لديه هذا الحس المرهف القوى تجاه الميدان واتجاهه الجمعى، أعجبه كثيراً أن يخرج السلفيون للنور بعد كل هذه العصور المظلمة من الاضطهاد والحرمان، أعجبه إلى حد لا يوصف، لكنه لم يستطع أن يرتاح قط لمن نصب نفسه أو نصبوه المتحدث الرسمى باسم الدعوة السلفية، هذا المنصب الذى لم يستطع قط أن يفهمه، والباشمهندس (الشحات) الذى لم يستطع أبداً أن يتمثل أحوال السلف أنفسهم فى الحلم قبل العلم، واللين فى النطق بالحق، والرفق فى الدعوة إلى الله، والاستيعاب قبل الإقصاء والتمييز..!

(هادى) انتظر الانتخابات البرلمانية كأنها مولوده الأول الذى يرتقبه بكل شغف، شارك فيها بدائرته فى مدينة نصر التى يقطن أحد أحيائها، وأعطى صوته للدكتور (مصطفى النجار) مقابل شيخه الرفيق الشفيق (محمد يسرى). أصابه سهم الألم وهو يرى أصدقاءه يتهمونه ضمناً بضياع دينه وفقدان هويته. لم يهتز وهو يقول لهم إن دينه نفسه يأمره بأن يصوت للأصلح والأكفأ والأكثر باعاً والأطول خبرة ولو كان شاباً خلوقاً لم يعتل يوماً منبر الدعوة وأصول الفقه..!

(هادى) سلفى ثائر حتى النخاع، يحاول أن يلملم أطراف مجتمعه الذى يصر على التفسخ، ورغم كل ما يواجهه من مضايق وتحديات من أقرب من عرف، فإنه لم يزل محتفظاً بصلته بربه وهدوئه المعتاد..!
_________________منقول