تحت الوصاية الحضارية
بقلم نيوتن - المصرى اليوم
أول جريمة وقعت بعد غزو العراق هى نهب متاحفه. فى ليلة ٢٨ يناير الماضى تصدرت عمليات نهب المتحف المصرى نيران الفوضى التى تزامنت مع لحظة مصرية مصيرية. سؤال: لماذا يتم تدمير التاريخ فى لحظة صناعة التاريخ؟
قرأت كثيراً عن الوقائع التى جرت مع انفجار الغضب المستمر فى مصر. حرق أقسام الشرطة متوقع. تهريب المساجين لا يثير الدهشة حين تنهار سلطة الأمن. نهب المتاجر والشركات وقع فى مصر، كما حدث فى لوس أنجلوس. ما أثار اندهاشى حقاً هو حرق الوثائق فى أفرع الشهر العقارى ومقار المحاكم!!
تأسست فى هذا اليوم قاعدة كارثية فى الأحداث المصرية: لا قيمة للتاريخ، شخصاً أو أثراً أو وثيقة أو قيمة. كل شىء تحت مداس الإهانة. المنتفض من أجل التغيير لا يمكن أن يهدر تراث بلده. المنادى بالحرية يعرف قيمة التاريخ لأنه يصنع التاريخ. الفوضوى تصدَّر المشهد قبل المنتفض. العصابات الخفية سرقت الفعل من الأحرار. لا يمكن للحر أن يعترف ببساطة بأن تقدميته فتحت الباب لانتهازية الإجرام.
لحظة احتراق المجمع العلمى المصرى لم تبدأ فى عصر يوم ١٧ ديسمبر. بدأت حين احترق مبنى المجلس القومى للمرأة والمجلس القومى لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للصحافة. اكتملت حين لم تمتد يد السلطة لإزالة آثار الحريق من فوق هذا المبنى الشهير. لا يمكن للأحرار أن يحرقوا القيمة. يفترض فى الأحرار أنهم يدافعون عن القيمة ويسعون لاستعادة القيمة. سوف تعلق فى أعناق هذه الأيام جريمة حرق المجمع العلمى المهيب.. أدعو الله ألا تكون مكتبة الإسكندرية فى الطريق إلى مواقد المولوتوف.
١٧ ديسمبر شوّه ٢٥ يناير. الفوضى اختطفت السعى للتغيير. الجريمة أساءت إلى الغضب النبيل. الإنسانية التى تميزت بها لحظات مصر التاريخية فى ٢٠١١ أهدرتها عصابات الوثائق.. لصوصاً وحارقين. بدأت السنة بجريمة إرهابية ضد كنيسة القديسين. تجاوزها المصريون بفعل تاريخى غير مسبوق فى اليوم الخامس والعشرين. بدا كما لو أن هناك صراعاً على عنوان السنة فى سجل مصر: أهو للإرهاب أم أنه للميدان اللاهث من أجل الحرية. لم يشأ العام أن يكتمل دون أن يرجح كفة العنوان الأول.
أى مصر هى مصر؟! أهى التى تسعى لاسترداد رأس نفرتارى أم أنها التى تحرق كنوز العلم وذخائر الوثائق؟! أى مصر سوف يصدقها العالم: بانية الحضارة وأيقونة الإنسانية، أم حارقة ما لديها من ثروة البشرية؟! إن ما احترق لم يكن لنا وحدنا. ثروة وطنية لكنها فى ذات الوقت قيمة عالمية. فى يوم ١٧ ديسمبر أفقدنا بعضنا التأهل الحضارى لأن نكون جديرين بصون الحضارة.
لا أخشى من التدخل الخارجى فى شؤون مصر وإنما أخشى من أن نوضع بعد ما جرى تحت الوصاية الحضارية. ليس على المصريين أن يتحسروا على آثارهم المنهوبة إذن. ليس علىّ أن أتعجب حين أزور المتحف البريطانى أو متحف اللوفر وأجد علامات حضارتنا هناك فى أيد أمينة. أيادينا غير أمينة على ما أبدعت أيدينا. أهدرنا قيمتنا. حرقنا مكانتنا. ألقينا زجاجات البنزين على نتاج عقولنا. هذه ليست أزمة ثائرين، ولا أزمة غاضبين، ولا أزمة علماء، ولا أزمة مثقفين، ولا أزمة عسكريين.
هذه أزمة أمة تأكل نفسها وتنسف مكانتها.. أشعلت النار فى نفسها مثل أى سيدة تكب على جسمها جازاً وتشعل عود ثقاب.. للأسف تتخيل أنها بذلك تنتقم من الآخرين. سيدفنونها بعد الأسى وينتهى الأمر.
كل ما رأيته مساء يوم السبت على الشاشات كان غثاءً. محطات تليفزيونية تواصل حرق عقل الأمة بالبرامج بدلاً من المولوتوف. أحاديث الناس التى أسمعها تتقاذف الطوب، كما يجرى فى شارع قصر العينى. البلد كله أصبح جانبين وثلاثة وأربعة.
مصر مقسمة كما تتوزع الشاشات على مجموعة مربعات. كل يتكلم فى اتجاه دون أن يدرك حجم الجرم الحضارى المركب الذى يساهم فى اقترافه. لو لم تعد الشاشة إلى حالة المربع الواحد.. لو لم يلتئم الانقسام.. لا يمكن أن تستبعد أبداً إلقاء المولوتوف على الهرم. من المؤسف أنهم يحرقون الحضارة بأحقر أدوات الإجرام وأتفهها. لم يجتهدوا حتى وهم يأثمون.
إذا عاد نجيب محفوظ العظيم، أول عربى حصل على «نوبل» إلى الحياة، وترشح لمنصب إنسانى عالمى، لن يفوز به.. ذلك أن أمته لم تستلهم من إبداعه أى قيمة.. حرقت تراثها بيد أبنائها.. ولم تبد حتى اللحظة ما يليق من الندم.
منقوووول
بقلم نيوتن - المصرى اليوم
أول جريمة وقعت بعد غزو العراق هى نهب متاحفه. فى ليلة ٢٨ يناير الماضى تصدرت عمليات نهب المتحف المصرى نيران الفوضى التى تزامنت مع لحظة مصرية مصيرية. سؤال: لماذا يتم تدمير التاريخ فى لحظة صناعة التاريخ؟
قرأت كثيراً عن الوقائع التى جرت مع انفجار الغضب المستمر فى مصر. حرق أقسام الشرطة متوقع. تهريب المساجين لا يثير الدهشة حين تنهار سلطة الأمن. نهب المتاجر والشركات وقع فى مصر، كما حدث فى لوس أنجلوس. ما أثار اندهاشى حقاً هو حرق الوثائق فى أفرع الشهر العقارى ومقار المحاكم!!
تأسست فى هذا اليوم قاعدة كارثية فى الأحداث المصرية: لا قيمة للتاريخ، شخصاً أو أثراً أو وثيقة أو قيمة. كل شىء تحت مداس الإهانة. المنتفض من أجل التغيير لا يمكن أن يهدر تراث بلده. المنادى بالحرية يعرف قيمة التاريخ لأنه يصنع التاريخ. الفوضوى تصدَّر المشهد قبل المنتفض. العصابات الخفية سرقت الفعل من الأحرار. لا يمكن للحر أن يعترف ببساطة بأن تقدميته فتحت الباب لانتهازية الإجرام.
لحظة احتراق المجمع العلمى المصرى لم تبدأ فى عصر يوم ١٧ ديسمبر. بدأت حين احترق مبنى المجلس القومى للمرأة والمجلس القومى لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للصحافة. اكتملت حين لم تمتد يد السلطة لإزالة آثار الحريق من فوق هذا المبنى الشهير. لا يمكن للأحرار أن يحرقوا القيمة. يفترض فى الأحرار أنهم يدافعون عن القيمة ويسعون لاستعادة القيمة. سوف تعلق فى أعناق هذه الأيام جريمة حرق المجمع العلمى المهيب.. أدعو الله ألا تكون مكتبة الإسكندرية فى الطريق إلى مواقد المولوتوف.
١٧ ديسمبر شوّه ٢٥ يناير. الفوضى اختطفت السعى للتغيير. الجريمة أساءت إلى الغضب النبيل. الإنسانية التى تميزت بها لحظات مصر التاريخية فى ٢٠١١ أهدرتها عصابات الوثائق.. لصوصاً وحارقين. بدأت السنة بجريمة إرهابية ضد كنيسة القديسين. تجاوزها المصريون بفعل تاريخى غير مسبوق فى اليوم الخامس والعشرين. بدا كما لو أن هناك صراعاً على عنوان السنة فى سجل مصر: أهو للإرهاب أم أنه للميدان اللاهث من أجل الحرية. لم يشأ العام أن يكتمل دون أن يرجح كفة العنوان الأول.
أى مصر هى مصر؟! أهى التى تسعى لاسترداد رأس نفرتارى أم أنها التى تحرق كنوز العلم وذخائر الوثائق؟! أى مصر سوف يصدقها العالم: بانية الحضارة وأيقونة الإنسانية، أم حارقة ما لديها من ثروة البشرية؟! إن ما احترق لم يكن لنا وحدنا. ثروة وطنية لكنها فى ذات الوقت قيمة عالمية. فى يوم ١٧ ديسمبر أفقدنا بعضنا التأهل الحضارى لأن نكون جديرين بصون الحضارة.
لا أخشى من التدخل الخارجى فى شؤون مصر وإنما أخشى من أن نوضع بعد ما جرى تحت الوصاية الحضارية. ليس على المصريين أن يتحسروا على آثارهم المنهوبة إذن. ليس علىّ أن أتعجب حين أزور المتحف البريطانى أو متحف اللوفر وأجد علامات حضارتنا هناك فى أيد أمينة. أيادينا غير أمينة على ما أبدعت أيدينا. أهدرنا قيمتنا. حرقنا مكانتنا. ألقينا زجاجات البنزين على نتاج عقولنا. هذه ليست أزمة ثائرين، ولا أزمة غاضبين، ولا أزمة علماء، ولا أزمة مثقفين، ولا أزمة عسكريين.
هذه أزمة أمة تأكل نفسها وتنسف مكانتها.. أشعلت النار فى نفسها مثل أى سيدة تكب على جسمها جازاً وتشعل عود ثقاب.. للأسف تتخيل أنها بذلك تنتقم من الآخرين. سيدفنونها بعد الأسى وينتهى الأمر.
كل ما رأيته مساء يوم السبت على الشاشات كان غثاءً. محطات تليفزيونية تواصل حرق عقل الأمة بالبرامج بدلاً من المولوتوف. أحاديث الناس التى أسمعها تتقاذف الطوب، كما يجرى فى شارع قصر العينى. البلد كله أصبح جانبين وثلاثة وأربعة.
مصر مقسمة كما تتوزع الشاشات على مجموعة مربعات. كل يتكلم فى اتجاه دون أن يدرك حجم الجرم الحضارى المركب الذى يساهم فى اقترافه. لو لم تعد الشاشة إلى حالة المربع الواحد.. لو لم يلتئم الانقسام.. لا يمكن أن تستبعد أبداً إلقاء المولوتوف على الهرم. من المؤسف أنهم يحرقون الحضارة بأحقر أدوات الإجرام وأتفهها. لم يجتهدوا حتى وهم يأثمون.
إذا عاد نجيب محفوظ العظيم، أول عربى حصل على «نوبل» إلى الحياة، وترشح لمنصب إنسانى عالمى، لن يفوز به.. ذلك أن أمته لم تستلهم من إبداعه أى قيمة.. حرقت تراثها بيد أبنائها.. ولم تبد حتى اللحظة ما يليق من الندم.
منقوووول