في أواخر عام 1972م، وفي بكور حبريّة
قداسة البابا شنودة الثالث – حفظ الرب لنا حياته الغالية وأبوّته الحانية -
أرسل قداسته وفدًا كنسيًّا لافتقاد أبنائه الرهبان في ديري الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا، للاطمئنان على أحوالهم الروحيّة والمعيشيّة، في ظلّ ظروف الحرب الصعبة التي كانت قائمة في ذلك الوقت.. فقد كانت منطقة البحر الأحمر، في ظلّ احتلال إسرائيل لسيناء، منطقة عسكريّة.. وكان الدخول إليها غير متاح إلاّ بتصاريح خاصّة من الأمن والجيش.. لذلك كان ديرا الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا يعيشان في شِبه عُزلة كاملة، وفي ظروف معيشيّة صعبة للغاية
ومن هنا أراد قداسة البابا شنودة الثالث، بأبوّته المعهودة، أن يطمئن على أبنائه الرهبان في تلك المنطقة ذات الظروف القاسية.. فشكّل وفدًا يضمّ إثنين من الآباء الأساقفة وبعض الآباء الكهنة والرهبان لزيارة الديرين، والسؤال عن أحوال الآباء الرهبان، والصلاة معهم، وتزويدهم ببعض المؤونة لتسديد احتياجاتهم.. وكان الأبوان الأسقفان هما نيافة الأنبا باخوميوس مطران البحيرة الحالي، حفظ الرب حياته وبارك في خدمته الممتدّة، ونيافة المتنيِّح الأنبا أغاثون مطران الإسماعيليّة السابق.. وقد ذهب مع الوفد بعض الآباء الكهنة المُحبِّين لأخذ بركة الديرين الطاهرَين والآباء الرهبان المجاهدين،
وصل الوفد الكنسي المبارك إلى دير الأنبا أنطونيوس بعد رحلة سفَر شاقّة، فقد كانت الطُّرُق في ذلك الوقت غير مُمَهَّدة بخلاف الآن.. فاستقبلهم الآباء الرهبان بفرح شديد، ودقُّوا الأجراس، وطافوا أمام الآباء الأساقفة بالمجامِر وألحان الكنيسة الشّجيّة، حتّى دخلوا إلى الكنيسة، وصلُّوا صلاة الشُّكر..
في المساء أقام الآباء الرهبان مائدة محبّة ترحيبًا بالآبوين الأسقفين والوفد البابوي.. وجلس الجميع حول المائدة في ابتهاجٍ، وحضر معهم الأب الناسك الصامت الراهب يسطس الأنطوني، الذي لبّى الدعوة لحضور مائدة الأغابي تقديرًا للوفد البابوي، على الرغم من أنّه ليس من عادته أن يشارك الآباء الرهبان في المائدة بل يأكل بطريقته الخاصّة جدًّا، والمتقشِّفة جدًّا جدًّا.. وكلّنا نعرف أن هذا الراهب العجيب، الذي تنيّح في ديسمبر 1976م، كان زاهدًا جدًّا، وصامتًا أغلب حياته باستثناء المشاركة في صلوات الكنيسة الليتورجيّة من تسبحة وقدّاس...
على المائدة دار حديث عن الأنبا أنطونيوس أب كل الرهبان.. وأثناء المناقشة ثار سؤال.. هل كان الأنبا أنطونيوس كاهنًا أم لم يكُن..؟! وأخذ الحوار وقتًا طويلاً حول هذا الموضوع، وانقسم الحاضرون إلى فريقين البعض يؤكِّد أن الأنبا أنطونيوس كان كاهنًا يقيم القدّاسات ويقبل الاعترافات، والبعض الآخَر يقول بأنّه لم يَرِد في سيرته أنّه كان كاهنًا، بل كان أبًا روحيًّا ومعلِّمًا ومُرشدًا لكثيرين في طريق الرهبنة بنذورها الثلاثة (العِفّة والطاعة والفقر الاختياري).. وليس من الضروري أن يكون كاهنًا..!
طوال الجلسة كان أبونا يسطس صامتًا تمامًا، لم يفتح فمه بحرف واحد وسط كل المناقشات المُحتدِمة.. وأخيرًا وعلى سبيل الدُعابة، رفع نيافة الأنبا أغاثون صوته قائلاً: "ما سمعناش صوتك يا أبونا يسطس.. ما تقول لنا رأيك، الأنبا أنطونيوس كان كاهن والاّ ما كانش كاهن..؟!"..
صمت الجميع في انتظار ما سيحدث.. هل سيردّ أبونا يسطس أم سيظلّ ساكتًا؟! فالذي يسأله هو أب أسقف، وليس من اللياقة أن لا يردّ عليه..!
بعد برهة من الصمت، فتح أبونا يسطس فاه بهدوء، ووجهه مُطرَق إلى الأرض، وقال: "كان عامل بدرجته"..!
نزلت الكلمة كالدشّ البارد على الجميع.. فهو يلفت النظر إلى أن الأنبا أنطونيوس كان إنسانًا مجاهِدًا مُتاجِرًا بوزناته، سواء كان كاهنًا أم لم يكُن.. فبدلاً من أن ننشغل بهذا الموضوع غير المُجدِي، لننتبه أن نكون نحن عاملين بدرجتنا..!
صَمَتَ الجميع تمامًا بعد هذه الكلمة، ولم يجرؤ أحد أن يفتح هذا الموضوع مرّة أخرى..!
+ ليس مُهِمًّا نوعيّة الوزنات التي يأخذها الإنسان، ولا عددها.. ولكن المهم أن يتاجر الإنسان بما في يديه من وزنات وهبها له الله.. فالعظمة لا تأتي من نوعيّة الوزنات والمواهب التي يمتلكها الإنسان، بل تأتي عندما ينجح الإنسان في استثمارها لمجد الله واهبها وصاحبها..!
+ وأيضًا ليس من الصالح أن نشغل أنفسنا بالجدل حول أمور غير أساسيّة في الحياة الروحيّة، ولا تخدم خلاص نفوسنا.. فهذا غير مفيد لمسيرتنا الروحيّة على الإطلاق..!
+ ليكُن كل واحد مِنّا عاملاً بدرجته، الأسقف.. الكاهن.. الشمّاس.. الراهب.. الأب.. الأم.. الخادم.. الخادمة.. ولا ينبغي أن ننشغل بدرجات الآخرين ولا بما لديهم من وزنات، بل ننتبه إلى وزناتنا ونركِّز بكل جهدنا في المتاجرة بها، لنقدِّمها للّه رابحةً، ونستحق أن يُقال لنا:"حسنًا أيها العبد الصالح والأمين. كنتَ أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير. ادخُل إلى فرح سيِّدك" (مت25: 21)
قداسة البابا شنودة الثالث – حفظ الرب لنا حياته الغالية وأبوّته الحانية -
أرسل قداسته وفدًا كنسيًّا لافتقاد أبنائه الرهبان في ديري الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا، للاطمئنان على أحوالهم الروحيّة والمعيشيّة، في ظلّ ظروف الحرب الصعبة التي كانت قائمة في ذلك الوقت.. فقد كانت منطقة البحر الأحمر، في ظلّ احتلال إسرائيل لسيناء، منطقة عسكريّة.. وكان الدخول إليها غير متاح إلاّ بتصاريح خاصّة من الأمن والجيش.. لذلك كان ديرا الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا يعيشان في شِبه عُزلة كاملة، وفي ظروف معيشيّة صعبة للغاية
ومن هنا أراد قداسة البابا شنودة الثالث، بأبوّته المعهودة، أن يطمئن على أبنائه الرهبان في تلك المنطقة ذات الظروف القاسية.. فشكّل وفدًا يضمّ إثنين من الآباء الأساقفة وبعض الآباء الكهنة والرهبان لزيارة الديرين، والسؤال عن أحوال الآباء الرهبان، والصلاة معهم، وتزويدهم ببعض المؤونة لتسديد احتياجاتهم.. وكان الأبوان الأسقفان هما نيافة الأنبا باخوميوس مطران البحيرة الحالي، حفظ الرب حياته وبارك في خدمته الممتدّة، ونيافة المتنيِّح الأنبا أغاثون مطران الإسماعيليّة السابق.. وقد ذهب مع الوفد بعض الآباء الكهنة المُحبِّين لأخذ بركة الديرين الطاهرَين والآباء الرهبان المجاهدين،
وصل الوفد الكنسي المبارك إلى دير الأنبا أنطونيوس بعد رحلة سفَر شاقّة، فقد كانت الطُّرُق في ذلك الوقت غير مُمَهَّدة بخلاف الآن.. فاستقبلهم الآباء الرهبان بفرح شديد، ودقُّوا الأجراس، وطافوا أمام الآباء الأساقفة بالمجامِر وألحان الكنيسة الشّجيّة، حتّى دخلوا إلى الكنيسة، وصلُّوا صلاة الشُّكر..
في المساء أقام الآباء الرهبان مائدة محبّة ترحيبًا بالآبوين الأسقفين والوفد البابوي.. وجلس الجميع حول المائدة في ابتهاجٍ، وحضر معهم الأب الناسك الصامت الراهب يسطس الأنطوني، الذي لبّى الدعوة لحضور مائدة الأغابي تقديرًا للوفد البابوي، على الرغم من أنّه ليس من عادته أن يشارك الآباء الرهبان في المائدة بل يأكل بطريقته الخاصّة جدًّا، والمتقشِّفة جدًّا جدًّا.. وكلّنا نعرف أن هذا الراهب العجيب، الذي تنيّح في ديسمبر 1976م، كان زاهدًا جدًّا، وصامتًا أغلب حياته باستثناء المشاركة في صلوات الكنيسة الليتورجيّة من تسبحة وقدّاس...
على المائدة دار حديث عن الأنبا أنطونيوس أب كل الرهبان.. وأثناء المناقشة ثار سؤال.. هل كان الأنبا أنطونيوس كاهنًا أم لم يكُن..؟! وأخذ الحوار وقتًا طويلاً حول هذا الموضوع، وانقسم الحاضرون إلى فريقين البعض يؤكِّد أن الأنبا أنطونيوس كان كاهنًا يقيم القدّاسات ويقبل الاعترافات، والبعض الآخَر يقول بأنّه لم يَرِد في سيرته أنّه كان كاهنًا، بل كان أبًا روحيًّا ومعلِّمًا ومُرشدًا لكثيرين في طريق الرهبنة بنذورها الثلاثة (العِفّة والطاعة والفقر الاختياري).. وليس من الضروري أن يكون كاهنًا..!
طوال الجلسة كان أبونا يسطس صامتًا تمامًا، لم يفتح فمه بحرف واحد وسط كل المناقشات المُحتدِمة.. وأخيرًا وعلى سبيل الدُعابة، رفع نيافة الأنبا أغاثون صوته قائلاً: "ما سمعناش صوتك يا أبونا يسطس.. ما تقول لنا رأيك، الأنبا أنطونيوس كان كاهن والاّ ما كانش كاهن..؟!"..
صمت الجميع في انتظار ما سيحدث.. هل سيردّ أبونا يسطس أم سيظلّ ساكتًا؟! فالذي يسأله هو أب أسقف، وليس من اللياقة أن لا يردّ عليه..!
بعد برهة من الصمت، فتح أبونا يسطس فاه بهدوء، ووجهه مُطرَق إلى الأرض، وقال: "كان عامل بدرجته"..!
نزلت الكلمة كالدشّ البارد على الجميع.. فهو يلفت النظر إلى أن الأنبا أنطونيوس كان إنسانًا مجاهِدًا مُتاجِرًا بوزناته، سواء كان كاهنًا أم لم يكُن.. فبدلاً من أن ننشغل بهذا الموضوع غير المُجدِي، لننتبه أن نكون نحن عاملين بدرجتنا..!
صَمَتَ الجميع تمامًا بعد هذه الكلمة، ولم يجرؤ أحد أن يفتح هذا الموضوع مرّة أخرى..!
+ ليس مُهِمًّا نوعيّة الوزنات التي يأخذها الإنسان، ولا عددها.. ولكن المهم أن يتاجر الإنسان بما في يديه من وزنات وهبها له الله.. فالعظمة لا تأتي من نوعيّة الوزنات والمواهب التي يمتلكها الإنسان، بل تأتي عندما ينجح الإنسان في استثمارها لمجد الله واهبها وصاحبها..!
+ وأيضًا ليس من الصالح أن نشغل أنفسنا بالجدل حول أمور غير أساسيّة في الحياة الروحيّة، ولا تخدم خلاص نفوسنا.. فهذا غير مفيد لمسيرتنا الروحيّة على الإطلاق..!
+ ليكُن كل واحد مِنّا عاملاً بدرجته، الأسقف.. الكاهن.. الشمّاس.. الراهب.. الأب.. الأم.. الخادم.. الخادمة.. ولا ينبغي أن ننشغل بدرجات الآخرين ولا بما لديهم من وزنات، بل ننتبه إلى وزناتنا ونركِّز بكل جهدنا في المتاجرة بها، لنقدِّمها للّه رابحةً، ونستحق أن يُقال لنا:"حسنًا أيها العبد الصالح والأمين. كنتَ أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير. ادخُل إلى فرح سيِّدك" (مت25: 21)