السلّم الذي رآه يعقوب هو من أهمّ وأجمل الرموز الموجودة في العهد القديم عن السيّدة العذراء.. فقد ظهر الله ليعقوب، وهو هارب من أخيه عيسو في الطريق إلى خاله لابان، وكان المنظر سلّمًا مرتفعًا إلى السماء والملائكة يصعدون وينزلون عليه، والرب يطلّ على يعقوب من أعلى السلّم بمجدٍ عظيم، ويتحدّث معه بكلام فيه طمأنينة وسلام وبركة (تك28)..
يري الكثير من آباء الكنيسة أنّ أمنا العذراء هي السلّم الذي نزل عن طريقه الرب إلى عالمنا الأرضي، حاملاً لنا السلام والبركة والخلاص.. فهي الإنسانة التي اتّخذ منها جسدًا، وسكن في بطنها البتولي تسعة أشهر، فصار بطنها عرشًا لله المستريح في القدّيسين، وأخيرًا قدّمت لنا الله محمولاً على ذراعيها..
العذراء هي السلّم الذي ربط السماء بالأرض، أو بالحرى مكّن الأرضيين من الوصول للسماء..!
القطعة الثامنة من ثيؤطوكيّة السبت تتحدّث عن سلّم يعقوب، وتبدأ بلحن رائع هو لحن "أريتنثونتي".. ومعناه: "شُبِّهتِ بالسلّم الذي رآه يعقوب، مرتفعًا إلى السماء، والرب المخوف عليه".. ثم نجد في المديح الرومي على هذه القطعة بعض العبارات البالغة العُمق والجمال.. منها:
+ حَسَنًا رآكِ يعقوب أبونا، مثل سلّم ذي نفس مرتفعة إلى السماء، والرب القدوس جالس عليها، أيتها اليمامة.
+ لأنه صنع أحشاكِ عرشًا، وأيضًا بطنك المختوم، جعله أوسع من السموات.
+ السلام لكِ من قِبَلِنا، لأن من كنزك المختوم، ولدتِ المستريح في القديسين.
أقف قليلاً أمام عبارة واحدة غاية في الروعة، وهي وصف أمنا العذراء بأنّها مثل سلّم حيّ له نفس تسمو وتحلّق وترتفع حتّى تصل إلى السماء، والرب جالس ومستريح بمجدٍ عظيم على هذه النفس.. فالعذراء إنسانة ارتفعت بقلبها وكلّ حواسها إلى السماء، فاستحقّت أن تكون مكانًا يستريح فيه الرب..!
ارتفاع النفس بالطبع لا يعني التعالي على الآخرين، بل السمو فوق كلّ رغبات العالم والاهتمامات الأرضيّة، لكي تصلّ النفس إلى الله وتتّحد به..
في الحقيقة لا يمكننا أن نتّصل بالله اتصالاً حقيقيًّا بدون هذا الارتفاع، وتجاوُز هموم العالم ومشغوليّاته.. وهذا ما تُشجِّعنا عليه الكنيسة عندما تخاطبنا في كلّ قدّاس: "ارفعوا قلوبكم" أي نرتفع بقلوبنا حتّى نلتقي الله، طارحين عنّا كل أفكار الخواطر الشريرة، ومشتركين في التسبيح مع القوّات السمائيّة..
من الناحيّة العمليّة، الارتفاع ليس أمرًا سهلاً، فهو ضدّ الجاذبيّة الأرضيّة.. ولكن الذي وقع في دائرة جاذبيّة حُب يسوع المصلوب يكون الارتفاع سهلاً بالنسبة له، لأن جاذبيّة يسوع أقوى بكثير من جاذبيّة الأمور الأرضيّة، ولذلك هو أكّد قبل الصليب وقال: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ" (يو12: 32).. وهذا يعطينا فِكرة عن كيفيّة الارتفاع.. فعندما ننظر للصليب ونتأمّل في الصليب ونتعلّق بالصليب، يرفعنا الصليب إلى السماء..!
يظنّ الكثيرون أنّ الصليب هو حِمل ثقيل، قد يكسر الإنسان وينزل به إلى الأرض.. ولكن الحقيقة أنّ الصليب هو أهم وسيلة تتحرّر بها النفس من روابط الأرض وترتفع بها إلى السماء..
لقد رأى يعقوب السلّم وهو هارب، وفي وقت شِدّة وضيق، ولم يره وهو متنعِّم في بيت أبيه.. وأيضًا أمنا العذراء حملت الصليب في حياتها بشكر وتسليم وقبلت أن يجوز في نفسها سيف الآلام، فارتفعت نفسها إلى السماء وصارت أعلى من الشاروبيم والسيرافيم.. هكذا دائمًا الصليب يُعِدّ الإنسان للارتفاع إلى السماء، ومَن يتبّع المسيح حاملاً الصليب فهو في الطريق الصاعِد إلى السماء..!
هناك الكثير من الأحاديث أو التصرّفات التي تنزل بنا إلى الأرض.. فإذا أردنا أن نكون مثل أمنا العذراء مرتفعين إلى السماء، لابد أن نتخلّى عن مثل هذه الأمور، وننشغل بما يرفعنا إلى فوق..
التأمُّل في كلام الإنجيل يرفعنا إلى فوق.. التسبيح والترنيم يرفعنا إلى فوق.. التوبة ترفعنا إلى فوق.. الاهتمام بخدمة الآخرين يرفعنا إلى فوق.. قراءة أقوال الآباء وخبراتهم ترفعنا إلى فوق.. رفع أيدينا في صلاة المخدع الهادئة يرفعنا إلى السماء.. حضور التسبحة والقدّاس يرفعنا إلى السماء..
وأخيرًا النفس المرتفعة إلى السماء هي نفس مملوءة بالسلام.. ينسكب عليها دائمًا السلام السمائي، فلا تزعجها أحداث الأرض ولا اضطراباتها.. بل هي دائمًا تستمدّ فرحها وطمأنينتها وقوّتها من وعود السماء وبركات السماء ورعاية السماء..!
القمص يوحنا نصيف