بين شم النسيم وعيد القيامة
القس يوحنا نصيف - الإسكندرية
يتساءل
الكثيرون عن سرّ ارتباط عيد شمّ النسيم المصري بعيد القيامة المسيحي.
وأيضًا يتساءلون عن سبب تغيير موعد العيدين من عام لآخَر، وعلى أي أساس
يتمّ تحديد الموعِد..؟! ولماذا يختلف موعد الاحتفال أحيانًا بين الطوائف
المسيحيّة المتعدّدة..؟!
ويُسعدني أن أقدِّم إجابات مبسَّطة، وتوضيحًا لهذا التساؤلات..
أولاً:
عيد شمّ النسيم هو عيد مصري قديم، كان أجدادنا المصريون يحتفلون به مع
مطلع فصل الربيع، وكلمة "شم النسيم" هي كلمة قبطيّة (مصريّة) ولا تعني
"استنشاق الهواء الجميل"، بل تعني: "بستان الزروع".. "شوم" تعني: "بستان"،
و"نيسيم" تعني: "الزروع"، وحرف "إن" بينهما للربط مثل of بالإنجليزيّة..
فتصير الكلمة "شوم إن نيسيم" بمعنى "بستان الزروع".. وقد تطوّر نطق الكلمة
مع الزمن فصارت "شمّ النسيم" التي يظنّ الكثيرون أنها كلمة عربيّة، مع
أنها في الأصل قبطيّة (مصريّة)..
ثانيًا: بعد انتشار المسيحيّة في مصر
حتى غطّتها بالكامل في القرن الرابع، واجه المصريون مشكلة في الاحتفال
بهذا العيد (شم النسيم) إذ أنه كان يقع دائمًا داخل موسم الصوم الكبير
المقدّس الذي يسبق عيد القيامة المجيد.. وفترة الصوم تتميَّز بالنسك
الشديد والاختلاء والعبادة العميقة، مع الامتناع طبعًا عن جميع الأطعمة
التي من أصل حيواني.. فكانت هناك صعوبة خلال فترة الصوم في الاحتفال بعيد
الربيع، بما فيه من انطلاق ومرح وأفراح ومأكولات.. لذلك رأى المصريون
المسيحيُّون وقتها تأجيل الاحتفال بعيد الربيع (شمّ النسيم) إلى ما بعد
فترة الصوم، واتفقوا على الاحتفال به في اليوم التالي لعيد القيامة المجيد
والذي يأتي دائمًا يوم أحد، فيكون عيد شمّ النسيم يوم الإثنين التالي له.
ثالثًا:
بخصوص تحديد موعد عيد القيامة، فهذا له حساب فلكي طويل، يُسمَّى حساب
"الإبَقطي EPACTE"، وهي كلمة معناها: "عُمر القمر في بداية شهر توت القبطي
من كل عام"..
تمّ وضع هذا الحساب في القرن الثالث الميلادي، بواسطة
الفلكي المصري "بطليموس الفرماوي" (من بلدة الفرما بين بورسعيد والعريش)
في عهد البابا ديمتريوس الكرَّام (البطريرك رقم 12 بين عاميّ 189م- 232م)
وقد نُسِبَ هذا الحساب للأب البطريرك، فدُعِيَ "حساب الكرمة"..
وهذا
الحساب يحدِّد موعد الاحتفال بعيد القيامة المسيحي بحيث يكون موحَّدًا في
جميع أنحاء العالم. وبالفِعل وافق على العمل به جميع أساقفة روما وأنطاكية
وأورشليم في ذلك الوقت، بناء على ما كتبه لهم البابا ديمتريوس الكرَّام في
هذا الشأن. ولمّا عُقد مجمع نيقية عام 325م أقرّ هذا الترتيب، والتزمت به
جميع الكنائس المسيحيّة حتى عام 1582م كما سنذكر فيما بعد..
هذا الحساب يراعي أن يكون الاحتفال بعيد القيامة موافقًا للشروط التالية:
1- أن يكون يوم أحد.. لأن قيامة الرب كانت فعلاً يوم أحد.
2- أن يأتي بعد الاعتدال الربيعي (21 مارس).
3- أن يكون بعد فصح اليهود.. لأن القيامة جاءت بعد الفصح اليهودي..
وحيث
أن الفصح يكون في يوم 14 من الشهر العبري الأول من السنة العبريّة
(القمريّة).. فلابد أن يأتي الاحتفال بعيد القيامة بعد اكتمال القمر في
النصف الثاني من الشهر العبري القمري..
وأيضًا لأن الفصح اليهودي
مرتبط بالحصاد، عملاً بقول الرب لموسى (لا23: 4-12)، والحصاد عند اليهود
دائمًا يقع بين شهرَي أبريل ومايو (وهي شهور شمسيّة).. لذلك كان المطلوب
تأليف دورة، هي مزيج من الدورة الشمسية والدورة القمريّة، ليقع عيد
القيامة بين شهري أبريل ومايو.. فلا يقع قبل الأسبوع الأول من أبريل أو
يتأخّر عن الأسبوع الأول من شهر مايو.
والمجال لا يتّسع لشرح كل
التفاصيل، ولكن الحساب في مُجمله هو عبارة عن دورة تتكوَّن من تسعة عشر
عامًا، وتتكرَّر.. وعلى أساس هذا الحساب لا يأتي عيد القيامة قبل 7 أبريل
ولا بعد 8 مايو... ثمّ يأتي عيد شمّ النسيم تاليًا له..
وقد استمر
موعِد الاحتفال بعيد القيامة موحَّدًا عند جميع الطوائف المسيحيّة في
العالم، طِبقًا لهذا الحساب القبطي، حتى عام 1582م حين أدخل البابا
غريغوريوس الثالث عشر بابا روما تعديلاً على هذا الترتيب، بمقتضاه صار عيد
القيامة عند الكنائس الغربيّة يقع بعد اكتمال البدر الذي يلي الاعتدال
الربيعي مباشرةً، بغض النظر عن الفصح اليهودي [مع أن قيامة المسيح جاءت
عقب فصح اليهود حسب ما جاء في الأناجيل الأربعة] فمِن ثَمّ أصبح عيد
القيامة عند الغربيين يأتي أحيانًا في نفس يوم احتفال الشرقيين به،
وأحيانًا أخرى يأتي مبكِّرًا عنه [من أسبوع واحد إلى خمسة أسابيع على أقصى
تقدير] ولا يأتي أبدًا متأخِّرًا عن احتفال الشرقيين بالعيد.
وجدير
بالذِّكر أن البروتستانت لم يعجبهم التعديل الكاثوليكي على موعِد الاحتفال
بعيد القيامة، وظلُّوا يعيّدون طبقًا لتقويم الإبقطي الشرقي حتى عام
1775م، ولكن مع ازدياد النفوذ الغربي اضطرّوا لترك التقويم الأصيل وموافقة
التقويم الغريغوري..!
إذن فالغرض من حساب الإبَقطي هو تحديد يوم عيد القيامة تبعًا للفصح اليهودي، وعليه يمكن تحديد الأعياد التالية له
القس يوحنا نصيف - الإسكندرية
يتساءل
الكثيرون عن سرّ ارتباط عيد شمّ النسيم المصري بعيد القيامة المسيحي.
وأيضًا يتساءلون عن سبب تغيير موعد العيدين من عام لآخَر، وعلى أي أساس
يتمّ تحديد الموعِد..؟! ولماذا يختلف موعد الاحتفال أحيانًا بين الطوائف
المسيحيّة المتعدّدة..؟!
ويُسعدني أن أقدِّم إجابات مبسَّطة، وتوضيحًا لهذا التساؤلات..
أولاً:
عيد شمّ النسيم هو عيد مصري قديم، كان أجدادنا المصريون يحتفلون به مع
مطلع فصل الربيع، وكلمة "شم النسيم" هي كلمة قبطيّة (مصريّة) ولا تعني
"استنشاق الهواء الجميل"، بل تعني: "بستان الزروع".. "شوم" تعني: "بستان"،
و"نيسيم" تعني: "الزروع"، وحرف "إن" بينهما للربط مثل of بالإنجليزيّة..
فتصير الكلمة "شوم إن نيسيم" بمعنى "بستان الزروع".. وقد تطوّر نطق الكلمة
مع الزمن فصارت "شمّ النسيم" التي يظنّ الكثيرون أنها كلمة عربيّة، مع
أنها في الأصل قبطيّة (مصريّة)..
ثانيًا: بعد انتشار المسيحيّة في مصر
حتى غطّتها بالكامل في القرن الرابع، واجه المصريون مشكلة في الاحتفال
بهذا العيد (شم النسيم) إذ أنه كان يقع دائمًا داخل موسم الصوم الكبير
المقدّس الذي يسبق عيد القيامة المجيد.. وفترة الصوم تتميَّز بالنسك
الشديد والاختلاء والعبادة العميقة، مع الامتناع طبعًا عن جميع الأطعمة
التي من أصل حيواني.. فكانت هناك صعوبة خلال فترة الصوم في الاحتفال بعيد
الربيع، بما فيه من انطلاق ومرح وأفراح ومأكولات.. لذلك رأى المصريون
المسيحيُّون وقتها تأجيل الاحتفال بعيد الربيع (شمّ النسيم) إلى ما بعد
فترة الصوم، واتفقوا على الاحتفال به في اليوم التالي لعيد القيامة المجيد
والذي يأتي دائمًا يوم أحد، فيكون عيد شمّ النسيم يوم الإثنين التالي له.
ثالثًا:
بخصوص تحديد موعد عيد القيامة، فهذا له حساب فلكي طويل، يُسمَّى حساب
"الإبَقطي EPACTE"، وهي كلمة معناها: "عُمر القمر في بداية شهر توت القبطي
من كل عام"..
تمّ وضع هذا الحساب في القرن الثالث الميلادي، بواسطة
الفلكي المصري "بطليموس الفرماوي" (من بلدة الفرما بين بورسعيد والعريش)
في عهد البابا ديمتريوس الكرَّام (البطريرك رقم 12 بين عاميّ 189م- 232م)
وقد نُسِبَ هذا الحساب للأب البطريرك، فدُعِيَ "حساب الكرمة"..
وهذا
الحساب يحدِّد موعد الاحتفال بعيد القيامة المسيحي بحيث يكون موحَّدًا في
جميع أنحاء العالم. وبالفِعل وافق على العمل به جميع أساقفة روما وأنطاكية
وأورشليم في ذلك الوقت، بناء على ما كتبه لهم البابا ديمتريوس الكرَّام في
هذا الشأن. ولمّا عُقد مجمع نيقية عام 325م أقرّ هذا الترتيب، والتزمت به
جميع الكنائس المسيحيّة حتى عام 1582م كما سنذكر فيما بعد..
هذا الحساب يراعي أن يكون الاحتفال بعيد القيامة موافقًا للشروط التالية:
1- أن يكون يوم أحد.. لأن قيامة الرب كانت فعلاً يوم أحد.
2- أن يأتي بعد الاعتدال الربيعي (21 مارس).
3- أن يكون بعد فصح اليهود.. لأن القيامة جاءت بعد الفصح اليهودي..
وحيث
أن الفصح يكون في يوم 14 من الشهر العبري الأول من السنة العبريّة
(القمريّة).. فلابد أن يأتي الاحتفال بعيد القيامة بعد اكتمال القمر في
النصف الثاني من الشهر العبري القمري..
وأيضًا لأن الفصح اليهودي
مرتبط بالحصاد، عملاً بقول الرب لموسى (لا23: 4-12)، والحصاد عند اليهود
دائمًا يقع بين شهرَي أبريل ومايو (وهي شهور شمسيّة).. لذلك كان المطلوب
تأليف دورة، هي مزيج من الدورة الشمسية والدورة القمريّة، ليقع عيد
القيامة بين شهري أبريل ومايو.. فلا يقع قبل الأسبوع الأول من أبريل أو
يتأخّر عن الأسبوع الأول من شهر مايو.
والمجال لا يتّسع لشرح كل
التفاصيل، ولكن الحساب في مُجمله هو عبارة عن دورة تتكوَّن من تسعة عشر
عامًا، وتتكرَّر.. وعلى أساس هذا الحساب لا يأتي عيد القيامة قبل 7 أبريل
ولا بعد 8 مايو... ثمّ يأتي عيد شمّ النسيم تاليًا له..
وقد استمر
موعِد الاحتفال بعيد القيامة موحَّدًا عند جميع الطوائف المسيحيّة في
العالم، طِبقًا لهذا الحساب القبطي، حتى عام 1582م حين أدخل البابا
غريغوريوس الثالث عشر بابا روما تعديلاً على هذا الترتيب، بمقتضاه صار عيد
القيامة عند الكنائس الغربيّة يقع بعد اكتمال البدر الذي يلي الاعتدال
الربيعي مباشرةً، بغض النظر عن الفصح اليهودي [مع أن قيامة المسيح جاءت
عقب فصح اليهود حسب ما جاء في الأناجيل الأربعة] فمِن ثَمّ أصبح عيد
القيامة عند الغربيين يأتي أحيانًا في نفس يوم احتفال الشرقيين به،
وأحيانًا أخرى يأتي مبكِّرًا عنه [من أسبوع واحد إلى خمسة أسابيع على أقصى
تقدير] ولا يأتي أبدًا متأخِّرًا عن احتفال الشرقيين بالعيد.
وجدير
بالذِّكر أن البروتستانت لم يعجبهم التعديل الكاثوليكي على موعِد الاحتفال
بعيد القيامة، وظلُّوا يعيّدون طبقًا لتقويم الإبقطي الشرقي حتى عام
1775م، ولكن مع ازدياد النفوذ الغربي اضطرّوا لترك التقويم الأصيل وموافقة
التقويم الغريغوري..!
إذن فالغرض من حساب الإبَقطي هو تحديد يوم عيد القيامة تبعًا للفصح اليهودي، وعليه يمكن تحديد الأعياد التالية له