سرّ يسوع تقديس الإنسان للاتحاد بالله
شهادة حية لإيمان مُسَلَّم من جيل إلى جيل
[ من التصق بالرب فهو روح واحد ] (1كو 6 : 17)
سر يسوع تقديس الإنسان أي تأهيل الطبيعة البشرية للحياة مع الله
كمجال حي لنتذوق عمل المسيح الخلاصي في حياتنا
الجزء الرابع :/ الجسد الترابي ليس عائقاً للتقديس
بل هو مجال مُناسب لعمل الله
وهُنا نرى حركة نزول لله الحي - باتضاع عظيم – إلى الجسد الإنساني الترابي ، وهي عينها حركة ارتقاء وصعود لنا نحن كبشر ، وهذا هو التقديس عينه [ ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء ] (يو 3 : 13) ، ولذلك حينما يقول الكتاب المقدس بإعلان إلهي واضح إن كلمة الله [ صار جسداً ] ، يعني بذلك أن كل كائن بشري في الجسد يؤمن بتجسد الكلمة إيمان حي حقيقي واعتمد فيه ، قد تطبع بالطابع الإلهي واتحد بالله بسبب تجسد الكلمة !!!
فلما صار الإله الكلمة إنساناً ، صار لكل إنسان يؤمن وحدة حقيقية مع الله بتقديس الروح القدس ، وصار له شركة حقيقية مع الله بالوحدة ، فتتغلغل فيه سمات المسيح الرب الإلهية بعمل الروح القدس الذي يأخذ مما له ويُعطينا ، لنصير في النهاية قديسين وبلا لوم أمامه في المحبة وتكتمل صورته فينا بنمونا إليها بالنعمة ...
ويقول القديس كيرلس الكبير : [ أن الابن الوحيد المولود من الآب له في طبيعته كل كيان الآب . ولما صار بشراً ... اتحد بجسدنا البشري اتحاداً لا يُمكن وصفه بكلام بشري .
إنه في آنٍ واحد إله وإنسان . يوحَّدْ في ذاته ، على نحوٍ خاص ، ما هو مُتباين له أشد التباين ، ويجعله مُشاركاً له في طبيعته الإلهية ]
أن الجسد في حقيقته – في نظر الإنجيل كلمة الله – هو علامة مجدٍ واعتزاز ، فالشخص البشري ليس [ روحاً متعلقة في جسد ] كما قال الفلاسفة ، بل هو – على العكس من ذلك – [ جسد تُحييه روح ] . والجسد والروح مقرنان في الحب ، بحيث يُمكن القول أن الجسد هو كالعروس التي يملأها الله بنعمته وبهائه ... فالله لم يوحَّد بين الروح والجسد عقاباً للروح ، ولا انتقاماً منها ، والله لم يخلق روحاً وصنع لها جسداً ، بل خلق الإنسان كإنسان : جسد ونفس وروح معاً بدون تفرقة إطلاقاً ولا تمييز بين جزء فيه وآخر ...
والجسد مقرّ سُكنى لمسرة الله . لذلك نرى بالروح القدس أن الله خلق الإنسان ووهبه جسد بدافع من حبه ، وبدافع من نفس ذات الحب اتخذ لنفسه ذات الجسد ، وإيماننا الحي حسب ما تسلمناه من كلمة الله ومن آباء الكنيسة يقول : إننا نؤمن أن المسيح الرب الإله الحي ، لما وحَّد في ذاته الجسد والخليقة أي البشرية ، أعادها إلى مجدها الأول وإلى الآب الذي منه صدرا ...
فالخليقة بأسرها تجد في جسد يسوع المسيح الإله الكلمة المتجسد ، مبدأ كرامتها ووحدتها وتضامنها . وهذه الحقيقة هي الخيط الذهبي الذي نسج منه اللاهوت المسيحي تعليمه على مدى التاريخ المسيحي كله ، وبه اتسَّم واتخذ معناه المُميز الذي لا يُمكننا الإحاطة بكل أبعاده مهما ما توغلنا في الحديث عنه وبدقة وبدراسة كاملة ، لأنه سرّ ندخل فيه ونغترف من غناه ونعيشه في حياتنا وننمو فيه يوماً بعد يوم ...
ولكن الحقيقة التي أخرجها لنا لاهوت الخبرة عند آباء الكنيسة هي : إن البشرية كلها ، بل الخليقة بأسرها ، هي فيض متدفق من محبة الله الثالوث القدوس الإله الواحد الوحيد ، وفي المسيح الإله الكلمة المتجسد أُعيدت إلى الله الثالوث القدوس ...
ففي التجسد صار المسيح الرب جوهر حياة البشرية ومحور الخليقة كلها ؛ والتجسد هو عمل محبة محض ، أراد به الله أن يصير واحداً مع خليقته بانسجام وتوافق وتناغم وتلاحم شديد يستحيل أن ينفك أو قابل لأدنى انفصال قط ، لذلك منذ التجسد وإلى ألبد لن يتخلى الرب يسوع عن جسده قط ...
لقد صار الكلمة جسداً ، رغبة منه في أن تتجلى ألوهيته وتتمجد في البشرية التي خلقها وقصد منذ الأزل أن تكون هي المقرّ المختار لسكناه والمكان المحبوب لحضوره الخاص ، لذلك قال بفمه الطاهر أنه لا يسكن في هياكل مصنوعة بيد بشر ، بل أننا هياكل مقدسه خاصة له قد صنعها بيديه لتكون المقر الدائم لسكناه وحلوله الخاص والسري :
[ الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي ] (اع 17 : 24)
[ أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم ] (1كو 3 : 16)
[ أنتمهيكل الله الحي كما قال الله إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً ] (2كو 6 : 16)
[ لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض ] (تث 7 : 6)
وكما يُقال في ليتورجيا الأروام في عيد البشارة [ اليوم بُشرى الفرح ؛ اليوم العيد البتولي ، اليوم السماء اتصلت بالأرض . آدم اكتسى حياة جديدة ، وحواء أُعتقت من الحزن . جوهرنا الإنساني صار مقراً لسُكنى الله ، وجسدنا البشري أضحى هيكلاً له ]
وبسبب نعمة التجسد تطبعنا بالطابع الإلهي وأصبح الله يُرى فينا من خلال جسدنا المادي هذا للخليقة كلها التي حينما ترى عمل الله فينا ظاهراً تمجده جداً : [ لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها ] (اف 2 : 10) ؛ [ فليُضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة و يمجدوا أباكم الذي في السماوات ] (مت 5 : 16)
ويقول القديس غريغوريوس بالاماس : [ إن الله غير المرئي للمخلوقات ، ولكنه ليس غير مرئي لنفسه ، هو الذي سوف يُرى لا فقط من خلال النفس التي فينا ، ولكن أيضاً من خلال جسدنا ]
ويقول القديس كيرلس الكبير : [ لقد تغيرنا إلى شكل المسيح روحياً ، وأيضاً جسدياً ، لأن المسيح يحل فينا أيضاً بالروح القدس ن وبسرّ الألوجية ] (تفسير رومية8: 3)
ويقول أيضاً : [ لقد نلنا نصيباً في القرابة معه بواسطة الإيمان . فقد صرنا شركاء معه في الجسد بواسطة سرّ الألوجية . وأيضاً اتحدنا به من جهة أخرى ذ صرنا شركاء طبيعته الإلهية بواسطة الروح (القدس) ]
وأيضاً يقول : [ كان ينبغي ، نعم كان ينبغي ليس فقط أن النفس تتجدد في جده الحياة بالروح القدس ، بل أن هذا الجسد أيضاً الكثيف الأرضي يتقدس بتناول جسدي مُناسب لطبيعته حتى ينال هو أيضاً عدم الفساد ] (تفسير يوحنا 6)
ويقول بأكثر وضوح : [ لقد خلق الله كل شيء للخلود . ولكن الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس ز فقد دفع المجرب الإنسان الأول للخطية والعصيان ، وأوقعته تحت لعنة الله . فكيف يُمكن للإنسان الذي صار تحت سلطان الموت أن يستعيد الخلود ؟ كان لابد أن يدخل جسده الميت في شركة قوة الله المُحيية . أما قوة الله المُحيية فهي اللوغس . لذلك فقد صار اللوغس إنساناً ، واتحد بجسد قابل للموت ن وأعطاه مناعة ضد الفساد ن وجعلهُ جسداً مُحيياً . لكن كان ينبغي أن يحلَّ فينا روحياً بواسطة الروح القدس . كما يتحد أيضاً بطريقة ما بأجسادنا بواسطة جسده المقدس ودمه الكريم ] (تفسير لو22: 9؛ العبادة بالروح : 9 ؛ شرح متى26: 26)
ويقول القديس أثناسيوس الرسولي : [ الجسد – الترابي – أخذ الشركة في طبع الكلمة ] (ضد الأريوسيين)
غنى النعمة ووافر السلام لكم جميعاً في الرب
كونوا معافين باسم الثالوث القدوس
الإله الواحد آمين
_____يتبع_____