ثورة البشموريين
كان يعيش أهل البشمور " الأقباط" في المنطقة الرملية على ساحل ا...لدلتا بين فرعى رشيد ودمياط، حيث كانت تحيط بها المستنقعات والأحراش التى تعيق حركة جنود الفاتحين والذين لم تكن لهم الدراية بطبيعة المنطقة، مما ساعد أبطال البشموريين على إعطاء جنود الغزاة درسا سيخلده التاريخ.
يقول ساويرس بن المقفع مبررا لثورتهم :عامل العرب البشموريين علي الاخص في غاية القسوة فقد ربطهم بسلاسل الي المطاحن وضربوهم بشدة ليطحنوا الغلال كما تفعل الدواب سواء بسواء فاضطر البشمورين ان يبيعوا اولادهم ليدفعوا الجزية ويتخلصوا من الام العذاب. ولما اقتنعوا نهائيا ان هذا الظلم لايحده الا الموت وان بلادهم كلها مستنقعات تخللها الطرق الضيقة التي ينفردون بمعرفتها, وانه يعد من المستحيل علي جيوش المسلمين ان يغزوها فقد اتفقوا علي اعلان الثورة ورفضوا دفع الجزية....وكان البطريرك يوساب يذوب حسرة علي رعيته التي تحالف علي إفنائها الطاعون والمجاعة والحرب ..غير ان البشموريين وطدوا العزم علي مواصلة القتال وأخذوا يصنعون لانفسهم الاسلحة وحاربوا الخليفة علانية ورفضوا دفع الجزية علي الاطلاق ... وقد تحسر البطريرك عليهم لانهم خاضوا غمار الحرب ضد عدو يفوقهم في العدد والعتاد وتعرضوا للموت بحكم ارادتهم , فكتب اليهم خطابا حاول ان يقنعهم بعد قدرتهم علي مقاومة الخليفة بالسلاح ويصف لهم المصائب التي ستحوق بهم ويطلب اليهم ان ينصرفوا عن عزمهم , ولما اتضح له ان الخطاب لم يؤثرفيهم , ارسل الخطاب تلو الخطاب ملحا في رجائه.
ولا نبالغ إن قلنا إنها كانت أشبه بحرب نظامية استعملت فيها أستراتيجية المنطقة. وقد أسفرت هذه الثورة الى هزيمة جيش الغزاة هزيمة منكرة. وفرّ أمامهم الوالى يتبعه جُباة الضرائب، الأمر الذى جعل المأمون الخليفة العباسى في بغداد يُرسل أخاه المعتصم على رأس جيش قوامه أربعة آلاف جندى ليدعم جيوش الاحتلال فى اخماد الثورة القبطية وعلى الرغم من وحشية الحملة وذبح الأطفال والشيوخ وانتهاك الحرمات، إلا أن ثورة الأقباط لم تخمد ولم تهدأ مما اضطر المأمون إلى ارسال جيش آخر من الأتراك بقيادة "أفشين" التركى بغرض التنكيل بالثوار "فحاربوه وقتلوا من الجيش عددا وافرا، ثم جرد عليهم عسكر آخر فكسروه... وتقول الدكتورة سيدة الكاشف: " وقد فشل أفشين" تماما في اخماد ثورة البشموريين مما اضطره أن يكتب الى المأمون الخليفة العباسى في هذا الوقت " طالبا امدادات للقضاء على الثورة التى اندلعت في كل مكان في محاولة للتخلص من نير الطغاة. وهنا نذكر كذلك ما يقوله الدكتور جمال الغيطانى: " إن الارتباط بالأرض نتاج طبيعى للوضع التاريخى والجغرافى والحضارى لمصر، فإذا ما أراد عدو أن يزحزح الانسان المصرى عن أرضه، فإلى أين يذهب إذ ليس حوله إلا الصحراء من كل جانب. وإذن فإما يموت شهيداً فوق أرضه أو يتجه إلى الصحراء.. وتمسُك القبطى بأرضه ووطنه حتى الموت. يشهد على ذلك العدد الهائل من الشهداء الأقباط الذين افتدوا مصر منذ القدم وحتى وقتنا. فمصر للأقباط بلد ملايين الشهداء.
وفي سنة 824 أضطر الخليفة المأمون أن يزحف من بغداد إلى مصر على رأس قوة حربية لإخماد ثورة الأقباط التى فشل في إخمادها كل قواده الذين أرسلهم سابقاً. وكاد ثوار الأقباط أن يفتكوا بجيش المأمون لولا أن الخليفة العباسى إلتجأ إلى أخبث الطرق والغير شريفة للقضاء على الثائرين، وذلك أنه استدعى الأنبا ديونيسيوس البطريرك الإنطاكى واستدعى معه الأنبا يوساب الأول بطريرك الأقباط وطلب منهما تحت التهديد أن يتعاونا معه في إخماد ثورة الأقباط، وقد أجابا بكل أسف طلب المأمون وحررا للثوار رسالة بها نصائح ومواعظ يحُثا فيها الثوار أن يلقوا بسلاحهم ويسلموا أنفسهم لولاة الأمير. وفي الوقت الذى كان الثوار في أمس الحاجة للمعونة المادية والمعنوية حتى يتمكنوا من التخلص من الظلم والاستبداد الأجنبى إذ بالقادة الروحيين ينخدعوا فيدعوهم إلى الاستسلام. ولا شك إن هذا الموقف من طرف القادة الروحيين كان له أثره البالغ على الأقباط أكثر من كل جحافل المأمون وطاغيته. ولكن على الرغم من كل هذا فقد رفض آباؤنا الأقباط فى إباء وشمم هذه النصائح الاستسلامية وفضلوا أن يعطوا أرواحهم فداء لمصر وعقيدتهم وهنا تذكر "الخريدة النفيسة" ذلك الحدث فتقول: " واستعدوا لمقاومة من يقصد سلب إستقلالهم وإذلالهم. وبعد حروب دموية بينهم وبين عساكر المأمون كان النصر دائما فى جانب الثوار. وقاد الخليفة الجيش بأجمعه الى حومة الوغى وأصلى نار الحرب.. ولم يدخر من قوته وسعا حتى أضعف الثوار، كما تذكر د. سيدة اسماعيل الكاشف بسالة هؤلاء الثوار فتقول: " ركز المأمون جميع قواته ضدهم وأعمل فيهم الجند السيف وأحرقوا مساكنهم وهدموا كنائسهم. وتضيف الخريدة النفيسة " دخل الجيش بلاد البشمور وحرق مدنها ودمر كنائسها وقتل صغارها وسبى نساءها وأجلى الخليفة رجالها إلى جزر الروم الخاضعة له وإلى بغدادا". وهكذا ابيد البشموريين علي بكرة ابيهم, وأما تقى الدين المقريزى فيقول في اختصار: " انتفض القبط فأوقع بهم "الأفشين" على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية، فبيعوا وسُبى أكثرهم، حينئذ ذلت القبط فى جميع أرض مصر.كما يعزي هزيمة البشموريين امام جيش المحتل الي تسخيرهم بعض سكان البلاد المجاورة ليرشدوا جيش الخليفة للوصول الي البشموريين دون المستنقعات التي عجز الجيش علي الدخول اليهم في الغزوات السابقة والحقواالهزيمة عدة مرات لجيش الخليفة واستطاعوا ان يفتكوا بعدد كبير من الجيش .
ويقول الانبا ديسقورس في موجز تاريخ المسيحية من كتب الترث علي البشموريين انهم كانوا يأتون ليلا وينقضون علي جيوش المسلمين ولم تنته الحرب معهم الا عندما استولي العباسيون علي مصر وان كانت ثوراتهم تجددت ايام هؤلاء ايضا خصوصا ايام الخليفة .
كانت هذه الثورة آخر ثورات الأقباط ضد الحكم الاسلامي, ولم يخرج الأقباط في ثورات اخري الا عند مشاركتهم مع المسلمين في ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي.
وعلى الرغم من كل ذلك فقد كانت الثورات القبطية تعبيرا صادقا عن الحركات القومية الوطنية، والتى تُمثل بعدا أساسيا في الشخصية القبطية، إذ كلما زاد التنكيل والاضطهاد كلما زادت الثورة.
والحق أنه مهما قيل عن اضطهاد المسيحيين فى عصر دقلديانوس والرومان فان التنكيل والسحق للشعب المصرى كان أضعافا مضاعفة فى العصر العربى، إذ كانت فترات حكمهم بمثابة محاولات متلاحقة وخطيرة لإبادة الشعب القبطى المُسالم الذى يحب وطنه ويقدسه... نعم كانت محاولات لإبادة القبط وإحلالهم بشراذم العرب الهاربة من جدب وفقر بلادها الصحراوية البدائية إلى نيل مصر العظيم وحضارته العظيمة...
4. اسباب فشل ثورات الأقباط
من يسمع تاريخ هذا العدد من الثورات القبطية ضد المحتل الاسلامي طبيعياً كيف لم تتحقق هذه الثورات تحرير مصر؟ ولماذا بائت جميعها بالفشل؟ لذا يمكننا تحليل اسباب إخفاق هذه الثورات في عددة عوامل منها:
• هدف الثورات: تلخص هدف ثورات الأقباط في شيئين هما تخفيض الضرائب أو التخلص من أحد الولاة ولكن لم تتجاوز هذا لمشروع استقلالي شامل.
• عدم دراية الأقباط باساليب وتقنيات الحرب, كذلك أفتقارهم لحنكة عقد التحالفات العسكرية والأتفاقيات التي تحقق أهدافهم.
• عدم توحد ثوراتهم في كل مصر في لحظة واحدة بحيث لا يمكن للمسلمين التغلب عليهم.
• عدم وجود القائد العسكري الذي يمكنه توحيد الجهود وتنظيم جيش, وعدم سعي البطريرك للعب هذا الدور أو تشجيع من يلعبه.
• إيثار البطريرك دائماً للسلامة, حتى أنه خضع لأوامر الوالي وتوسط لدى ملك النوبة للتراجع رغم كونها فرصة ذهبية لطرد المسلمين من مصر نهائياً.
• الروح الانهزامية لدى الأقباط وعدم ثقتهم في امكانيتهم لحكم البلاد.
. سوء العلاقةبين الكنيسة القبطية والكنيسة الملكانية الرومية وعدم وحدتهم مما كان سببا في ضعفهم الشديد .
اما الاستنتاجات الاستراتيجية فتتمثل في الآتي
- خيانة بعض السكان في القري المجاورة لبشمور الذين ارشدوا جيش االخليفة بالطرق والشعاب للوصول الي الثوار دون المرور علي المستنقعات التي كانت بمثابة حائط مانع للعدو
- افتقار الثوار الي المؤنة والاسلحة لانعزالهم في بلدة البشمور لمدة طويلة
- لم يجدوا الثوارادني دعم من البطاركة بل كانوا يثبطوا من عزيمة الثوار ويهبطوا من قوتهم
منقوول