10- الذين يعطون
تكلمنا عن القلب الحنون، الذي يعطف على الناس روحياً. هذا القلب يعطف أيضاً مادياً، وباستمرار يعطى..
وهذه هي شيمة الذين يعطون: يعطون بحب، وبسخاء وباستمرار، وبدون أن يطلب منهم.. وبراحة داخلية..
ما أجمل أن نشرك الله معنا في أموالنا، فيكون له نصيب منها.
وما نعطيه لله، لا نحسبه جزءاً ضائعاً من مالنا، وإنما نحسبه بركة كبيرة لباقي المال.
اذ أن الله عندما يأخذ من مالنا شيئاً، إنما يبارك هذا المال، فيزيد أكثر من الأصل بما لا يقاس. ويصبح مالاً مباركاً، ويعوضه الرب أضعافا من جهات أخرى. ونجد أننا بهذا العطاء قد زدنا ولم ننقص.
وفى الواقع أننا لا نعطى الله من مالنا، بل من ماله هو.. إن كل شيء نملكه هو ملك لله، ونحن مجرد أمناء عليه، مجرد وكلاء لله في هذا المال الذي استودعنا إياه لكي ننفقه في الخير. حقاً، ما الذي نملكه نحن؟! نحن الذين قيل عنا إننا:"عراة جئنا إلى الأرض، وعراة نعود إلى هناك".. الله هو المالك الحقيقي لكل ما نملك. وما أصدق داود النبي حينما قال لله " من يدك أعطيناك"..
وقد ظهر العطاء في التوراة في وصية العشور، حيث طلب الله من الناس أن يدفعوا العشور من كل ما يملكون.
ولكن العشور لم تكن كل شيء في العطاء.. كانت هناك أيضاً البكور، والنذور، والتقدمات، والقرابين، والنوافل.
وفي البكور كان الإنسان يعطي أوائل ثمار الأرض. أول حصيده يقدمه للرب، لكي يبارك الرب كل الحصاد. كما كان يقدم المولود البكر من كل حيواناته، حتى ابنه هو، البكر، كان يقدمه لخدمة الرب، كما قال الرب في التوراة " قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم".
ما أجمل أن نعطي البكور للرب: المرتب الأول الذي يتقاضاه الإنسان، والعلاوة الأولى وأول إيراد خاص يصل إليه. فمثلاً أجرة أول عملية يجريها الجراح يقدمها للرب وأول كشف للطبيب، وأول درس خصوصي للمدرس، وأول عمل يد للصانع. وهكذا يبارك الله كل أعمالنا لأنها بدأت به، وقدمنا أولى ثمارها له..
بل أن بكور الوقت نقدمها لله أيضاً.. الساعة الأولى في النهار نقدمها لله. أول كلمة ننطق بها كل يوم تكون كلمة موجهه إلي الله. أول عمل نعمله في يومنا يكون مختصاً بالله وعبادته. وبهذا يبارك الله يومنا ويقدسه وبنفس الوضع أول يوم في عامنا يكون يوماً للرب.
وفي عطائنا لا يصح أن نحاسب الله بالدقة الحرفية. فإن دفعنا العشور مثلاً، لا يجوز أن نقول لله: "كفاك هذا! ليس لك شيء عندنا بعد!"
كلا، إن العشور والبكور هي الحد الأدنى للعطاء، وأما العطاء فلا حدود له، أنه يختص بالقلب الحنون العطوف الذي يعطي عن حب مهما كانت قيمة العطاء، دون أن يحاسب الله على ما يعطيه..
ولقد جاءت المسيحية فرفعت العطاء عن مستوى العشور. وقالت: "من له ثوبان، فليعط الذي ليس له". ولم تكتف بهذا، بل تطورت إلي العطاء بغير حدود. فقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس: "من سألك فأعطيه. ومن طلب منك، فلا ترده".
هكذا لم يقتصر العطاء على العشور والبكور والنذور.. بل بقى باب الكمال مفتوحاً لما هو أكثر من هذا فعندما جاء الشاب الغني إلي السيد المسيح يستلهم منه معرفة الطريق الذي يوصله إلي الحياة الأبدية، أجابه بتلك الوصية الجميلة الخالدة..
"إن أردت أن تكون كاملاً، أذهب وبع كل مالك وأعطيه للفقراء، وتعال أتبعني".
هذه الوصية، نفذها القديس انطونيوس حرفياً وبها أسس الحياة الرهبانية فباع ثلاثمائة فدان كان يملكها من أجود الأطيان، ووزع ثمنها على الفقراء، وعاش حياة الزهد والنسك..
وسير القديسين تحكي لنا صور عجيبة للعطاء..
فالقديس الأنبا سرابيون الناسك، رأى رجلاً فقيراً، وإذ لم يكن له ما يعطيه، باع إنجيله وأعطاه ثمنه. وفي ذلك الوقت لم تكن هناك مطبوعات، وكان الإنجيل مخطوطة ثمينة.. ثم مر بعد ذلك فرأى فقيراً آخر. وإذ لم يكن له شيء أخر يعطيه، خلع ثوبه وأعطاه له. ورجع إلي مسكنه بلا ثوب ولا إنجيل. فلما سأله تلميذه: (أين إنجيلك يا أبي؟)، أجابه: (كان هذا الإنجيل يقول لي: "اذهب بع كل مالك وأعطيه للفقراء " فبعته لأنه كان كل ما لي).. فقال له تلميذه: (وأين ثوبك؟) فأجابه: (خلعته ليلبسه المسيح..).
ولعل أجمل ما في العطاء، أن يعطى. الإنسان من أعوازه..
لأن الشخص الذي يعطى من أعوازه، إنما يفضل غيره على نفسه، بل يتعب لأجل إرحة غيره. وهذا هو منتهى الحب الذي فيه تزول الذاتية، وتحل في موضعها محبة الغير.. وقد مدح السيد المسيح الأرملة الفقيرة التي وضعت شيئاً ضئيلاً في الصندوق. وقال إنها أعطت أكثر من الجميع، لأنها أعطت وهي محتاجة..
إن القلب الحنون دائماً يعطى. وإن لم يجد شيئاً يعطيه، فإنه يعطى كلمة حب..
و قد يوجد شخص يقترض لكي يعطى غيره. أو يطلب من الآخرين لكي يعطى للمحتاجين. ومن هنا نشأت الجمعيات الخيرية التي تجمع لتعطى..
ولكن أهم عطاء هو القلب ذاته. أعط الناس من قلبك، قبل أن تعطيهم من جيبك.
أعطهم عاطفة، قبل أن تعطيهم مالاً. اظهر لهم أنك شخص محب، وليس مجرد شخص محسن.. والعطاء الخالي من الحب يكون عملاً اجتماعياً أو إداريا، ولكنه ليس عملاً روحياً.
والقلب الحنون عندما يعطى، إنما يشعر أنه يتعامل مع الله ذاته:
من مال الله، يعطى عباد الله، دون أن يشعر بأي فضل من جهته.
هذا القلب العطوف يعطى للكل..
لا يقتصر على الأصدقاء والأحباء، وذوى القربى، وبنى جنسه، وأخوته في الدين والمذهب. كلا، بل يضع أمام عينيه أن يريح الكل، ويشفق على الكل. وبهذا يكسب الكل، ويحيط نفسه بجو من المحبة.
والقلب العطوف يعطى دون أن يطلب منه.
هو دائم التفكير في احتياجات الناس، دون أن يقولوا له.
يريد أن يريح الناس، يريد أن يسعدهم. وأن وضعت في يده مسئولية، يستخدمها لراحة الناس. وإن وهبه الله ثروة أو سلطة أو أية إمكانية، فإنه يستخدمها لأجل راحة الناس، كل الناس.
والقلب العطوف لا يستطيع أن ينام، إن سمع أن هناك شخصاً متعباً أو محتاجاً. بل يظل يفكر ماذا يفعل لأجله.
لذلك كان من المستحيل على مثل هذا القلب أن يؤذى أحداً، لأنه يتألم لآلام الناس، اكثر من تألمهم
منقوول
تكلمنا عن القلب الحنون، الذي يعطف على الناس روحياً. هذا القلب يعطف أيضاً مادياً، وباستمرار يعطى..
وهذه هي شيمة الذين يعطون: يعطون بحب، وبسخاء وباستمرار، وبدون أن يطلب منهم.. وبراحة داخلية..
ما أجمل أن نشرك الله معنا في أموالنا، فيكون له نصيب منها.
وما نعطيه لله، لا نحسبه جزءاً ضائعاً من مالنا، وإنما نحسبه بركة كبيرة لباقي المال.
اذ أن الله عندما يأخذ من مالنا شيئاً، إنما يبارك هذا المال، فيزيد أكثر من الأصل بما لا يقاس. ويصبح مالاً مباركاً، ويعوضه الرب أضعافا من جهات أخرى. ونجد أننا بهذا العطاء قد زدنا ولم ننقص.
وفى الواقع أننا لا نعطى الله من مالنا، بل من ماله هو.. إن كل شيء نملكه هو ملك لله، ونحن مجرد أمناء عليه، مجرد وكلاء لله في هذا المال الذي استودعنا إياه لكي ننفقه في الخير. حقاً، ما الذي نملكه نحن؟! نحن الذين قيل عنا إننا:"عراة جئنا إلى الأرض، وعراة نعود إلى هناك".. الله هو المالك الحقيقي لكل ما نملك. وما أصدق داود النبي حينما قال لله " من يدك أعطيناك"..
وقد ظهر العطاء في التوراة في وصية العشور، حيث طلب الله من الناس أن يدفعوا العشور من كل ما يملكون.
ولكن العشور لم تكن كل شيء في العطاء.. كانت هناك أيضاً البكور، والنذور، والتقدمات، والقرابين، والنوافل.
وفي البكور كان الإنسان يعطي أوائل ثمار الأرض. أول حصيده يقدمه للرب، لكي يبارك الرب كل الحصاد. كما كان يقدم المولود البكر من كل حيواناته، حتى ابنه هو، البكر، كان يقدمه لخدمة الرب، كما قال الرب في التوراة " قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم".
ما أجمل أن نعطي البكور للرب: المرتب الأول الذي يتقاضاه الإنسان، والعلاوة الأولى وأول إيراد خاص يصل إليه. فمثلاً أجرة أول عملية يجريها الجراح يقدمها للرب وأول كشف للطبيب، وأول درس خصوصي للمدرس، وأول عمل يد للصانع. وهكذا يبارك الله كل أعمالنا لأنها بدأت به، وقدمنا أولى ثمارها له..
بل أن بكور الوقت نقدمها لله أيضاً.. الساعة الأولى في النهار نقدمها لله. أول كلمة ننطق بها كل يوم تكون كلمة موجهه إلي الله. أول عمل نعمله في يومنا يكون مختصاً بالله وعبادته. وبهذا يبارك الله يومنا ويقدسه وبنفس الوضع أول يوم في عامنا يكون يوماً للرب.
وفي عطائنا لا يصح أن نحاسب الله بالدقة الحرفية. فإن دفعنا العشور مثلاً، لا يجوز أن نقول لله: "كفاك هذا! ليس لك شيء عندنا بعد!"
كلا، إن العشور والبكور هي الحد الأدنى للعطاء، وأما العطاء فلا حدود له، أنه يختص بالقلب الحنون العطوف الذي يعطي عن حب مهما كانت قيمة العطاء، دون أن يحاسب الله على ما يعطيه..
ولقد جاءت المسيحية فرفعت العطاء عن مستوى العشور. وقالت: "من له ثوبان، فليعط الذي ليس له". ولم تكتف بهذا، بل تطورت إلي العطاء بغير حدود. فقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس: "من سألك فأعطيه. ومن طلب منك، فلا ترده".
هكذا لم يقتصر العطاء على العشور والبكور والنذور.. بل بقى باب الكمال مفتوحاً لما هو أكثر من هذا فعندما جاء الشاب الغني إلي السيد المسيح يستلهم منه معرفة الطريق الذي يوصله إلي الحياة الأبدية، أجابه بتلك الوصية الجميلة الخالدة..
"إن أردت أن تكون كاملاً، أذهب وبع كل مالك وأعطيه للفقراء، وتعال أتبعني".
هذه الوصية، نفذها القديس انطونيوس حرفياً وبها أسس الحياة الرهبانية فباع ثلاثمائة فدان كان يملكها من أجود الأطيان، ووزع ثمنها على الفقراء، وعاش حياة الزهد والنسك..
وسير القديسين تحكي لنا صور عجيبة للعطاء..
فالقديس الأنبا سرابيون الناسك، رأى رجلاً فقيراً، وإذ لم يكن له ما يعطيه، باع إنجيله وأعطاه ثمنه. وفي ذلك الوقت لم تكن هناك مطبوعات، وكان الإنجيل مخطوطة ثمينة.. ثم مر بعد ذلك فرأى فقيراً آخر. وإذ لم يكن له شيء أخر يعطيه، خلع ثوبه وأعطاه له. ورجع إلي مسكنه بلا ثوب ولا إنجيل. فلما سأله تلميذه: (أين إنجيلك يا أبي؟)، أجابه: (كان هذا الإنجيل يقول لي: "اذهب بع كل مالك وأعطيه للفقراء " فبعته لأنه كان كل ما لي).. فقال له تلميذه: (وأين ثوبك؟) فأجابه: (خلعته ليلبسه المسيح..).
ولعل أجمل ما في العطاء، أن يعطى. الإنسان من أعوازه..
لأن الشخص الذي يعطى من أعوازه، إنما يفضل غيره على نفسه، بل يتعب لأجل إرحة غيره. وهذا هو منتهى الحب الذي فيه تزول الذاتية، وتحل في موضعها محبة الغير.. وقد مدح السيد المسيح الأرملة الفقيرة التي وضعت شيئاً ضئيلاً في الصندوق. وقال إنها أعطت أكثر من الجميع، لأنها أعطت وهي محتاجة..
إن القلب الحنون دائماً يعطى. وإن لم يجد شيئاً يعطيه، فإنه يعطى كلمة حب..
و قد يوجد شخص يقترض لكي يعطى غيره. أو يطلب من الآخرين لكي يعطى للمحتاجين. ومن هنا نشأت الجمعيات الخيرية التي تجمع لتعطى..
ولكن أهم عطاء هو القلب ذاته. أعط الناس من قلبك، قبل أن تعطيهم من جيبك.
أعطهم عاطفة، قبل أن تعطيهم مالاً. اظهر لهم أنك شخص محب، وليس مجرد شخص محسن.. والعطاء الخالي من الحب يكون عملاً اجتماعياً أو إداريا، ولكنه ليس عملاً روحياً.
والقلب الحنون عندما يعطى، إنما يشعر أنه يتعامل مع الله ذاته:
من مال الله، يعطى عباد الله، دون أن يشعر بأي فضل من جهته.
هذا القلب العطوف يعطى للكل..
لا يقتصر على الأصدقاء والأحباء، وذوى القربى، وبنى جنسه، وأخوته في الدين والمذهب. كلا، بل يضع أمام عينيه أن يريح الكل، ويشفق على الكل. وبهذا يكسب الكل، ويحيط نفسه بجو من المحبة.
والقلب العطوف يعطى دون أن يطلب منه.
هو دائم التفكير في احتياجات الناس، دون أن يقولوا له.
يريد أن يريح الناس، يريد أن يسعدهم. وأن وضعت في يده مسئولية، يستخدمها لراحة الناس. وإن وهبه الله ثروة أو سلطة أو أية إمكانية، فإنه يستخدمها لأجل راحة الناس، كل الناس.
والقلب العطوف لا يستطيع أن ينام، إن سمع أن هناك شخصاً متعباً أو محتاجاً. بل يظل يفكر ماذا يفعل لأجله.
لذلك كان من المستحيل على مثل هذا القلب أن يؤذى أحداً، لأنه يتألم لآلام الناس، اكثر من تألمهم
منقوول