تعليم السيد المسيح عن الزواج مرتبط بالنظرة المسيحية إلى الجنس. ويجب تلبية رغبة الدافع الجنسي الصحيح في إطار الحياة الزوجية فقط، وعلى هذا الأساس فإن الأخلاق المسيحية تدين العلاقات الجنسية السابقة للزواج، كما تدين الخيانة الزوجية.
والزواج المسيحي هو اقتران رجل واحد بامرأة واحدة اقتراناً شرعياً مدى حياة الزوجين - وعليه فإنه يتصف بصفتين أساسيتين هما: استمرارية العلاقة، وانفراد العلاقة مع شريك واحد. وكتعبير عن هاتين الصفتين تُؤخذ عهود الإخلاص والأمانة الزوجية على الزوجين عند إجراء عقد الزواج. وهذه العهود تتضمن المحبة والإخلاص والوفاء في الصحة والمرض، في السراء والضراء، وحفظ الإنسان نفسه للآخر دون سواه ما دام الطرفان على قيد الحياة.
وقد يتساءل البعض عن ضرورة هذه العهود ما دام الطرفان يحب أحدهما الآخر. والجواب على هذا التساؤل يقودنا إلى صميم طبيعة الزواج المسيحي. فمع أن الحب شرط لا غنى عنه في الزواج السعيد، لكن الزواج يتطلب ما هو أكثر من الحب - إنه يتطلب مع المحبة الالتزام الأخلاقي والشرعي.
إن الزواج ليس اتفاقاً طبيعياً فحسب، ولكنه قرار أخلاقي مؤسس على الاتفاق الطبيعي. إن الزواج ليس مجرد إحساس شخصين أنهما مرتبطان معاً بالحب ولذلك يعطي أحدهما نفسه للآخر في علاقة جنسية، لكن الزواج يتم عندما يعترف الطرفان بالترتيب الإلهي لشريعة الزواج كرباط مقدس، وإقرار الطرفين بأنهما مرتبطان بهذا الرباط.
وعلى هذا يكون للزواج أساس ذاتي هو عاطفة الزوج والزوجة أحدهما نحو الآخر، وله أيضاً أساس موضوعي أي خارج عن الذات. هو إقرار الزوجين بطبيعة الزواج كاتحاد فريد، يخلقه فيهما اختيارهما الحر للدخول فيه، وتترتب عليه مطاليب والتزامات. لهذا السبب يُعتبر الإخلاص أساسياً في الزواج لأنه العامل الأخلاقي الذي يُثري ويعمق الحب الطبيعي ويزيده قيمة وجمالاً. فعن طريق الإخلاص، تصير المشاعر الطبيعية في الإنسان أمراً شخصياً يتجه نحو شخص محدد، وعن طريق العهود تندمج العواطف مع الإرادة الشخصية في رباط مقدس يكون مبرراً لأن يتقبل كل من الشخصين لمخاطرة حياة العشرة الدائمة مع الشخص الآخر، هذه العشرة التي يهب فيها كل شخص نفسه للآخر.
ومن المؤسف أن كثيرين في عصرنا الحاضر قد ابتعدوا قليلاً أو كثيراً عن هذه الصورة المثالية؛ وابتدأ البعض يشك في قدرتها على الصمود أمام تجارب الحياة المعاصرة. وقد ساهمت بعض النظريات الحديثة في زعزعة ثقة الناس في هذه الصورة. فقد قال بعض علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان): إن المثل العليا للحياة الزوجية وليدة بعض الحضارات القديمة وهي بذلك نسبية وليست مطلقة، ومتغيرة وليست ثابتة. وقال بعض علماء علم الاجتماع إن الحياة الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية في الحقبات الأخيرة تركت بصماتها على قيم الحياة الزوجية وأدخلت فيها بعض التعديلات. وحذر بعض أطباء النفس من الكبت الجنسي قائلين إنه يؤدي إلى الأمراض النفسية، في الوقت الذي نادى فيه أصحاب النظرة المادية الطبيعية بما سبق أن ذكرناه عن إمكانية ممارسة الاشواققبل الزواج؛ وأضاف آخرون أنه من العسير أن يلتزم الإنسان بدوام الزواج، وتساءلوا: أليس من الممكن أن نترك الباب مفتوحاً للتنصل من عهود الزواج إذا لم يستمر الحب قائماً بين الزوجين؟ ولماذا لا ننظر إلى الزواج كتجربة يمكن أن تنجح أو تفشل، وفي حالة الفشل لماذا لا نتيح الفرصة لتجربة ثانية قد يكون حظها من النجاح أوفر من الأولى؟!!
أمام هذه الأسئلة ونظائرها، كان من الضروري أن ندرس بعناية وعمق عما إذا كان نظام الزواج المسيحي قد أصبح غير ملائم للإنسان المعاصر، أم أنه مؤسس على حقائق متأصلة في الطبيعة الإنسانية لا تتغير، وبذلك فهو يستطيع أن يثبت أمام كل الظروف المتغيرة في الحياة المعاصرة.
إننا بعد الدراسة المستفيضة الموضوعية، وبعد تقليب جميع وجهات النظر، واستعراض كافة النظريات السائدة في المجتمع المعاصر، وبالاستعانة بأحدث مما وصلت إليه العلوم الحديثة من أبحاث، وفي نور كلمة الله، نريد أن نؤكد أن الزواج المسيحي بصورته المثالية التي ذكرناها وهي الاقتران الشرعي المقدس بين رجل واحد وامرأة واحدة مدى حياتهما معاً، مؤسس على أسس أصيلة في نظام الحياة والطبيعة البشرية، وبذلك لا يمكن أن نتركه نهباً لتقلبات وتغيرات الأمزجة والظروف في مختلف العصور.
الفروق الجنسية بين الرجل والمرأة جزء من نظام الخليقة. هذه الفروق السيكلوجية والبيولوجية تشير إلى أن كلا من الرجل والمرأة ليس كاملاً بمفرده، وإن الجنسين يحتاج أحدهما إلى الآخر، ليس لإرضاء الرغبات والدوافع الجنسية فحسب، بل ليكمل أحدهما الآخر. هذا هو الأساس الوجودي الأنثروبولوجي للزواج. فبعد أن خلق الله آدم قال الله «لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ» (تك 2: 18) وبعد أن خلق الله حواء، قال الكتاب «لِذٰلِكَ يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً» (تك 2: 24). إن القول «ليس جيداً أن يكون آدم وحده» لا تشير إلى حالة الوحدة أو العزلة النفسية فحسب، بل إلى حالة الوجود نفسه أو الكينونة ... إن آدم يحتاج إلى شخص ليكمله. والمعين الذي يحتاجه الرجل ليس مجرد فرد يقتسم معه العمل حتى يستطيع هو أن يصطاد أو يزرع، بينما تقوم هي بطهي الطعام وترتيب المنزل. ولكن المعين شخص يقدر جهوده، ويشاركه ميوله واهتماماته، ويمنحه العاطفة التي ينالها بدوره منه أيضاً، ويثري حياته بأن ينتزعه خارج ذاته إلى دائرة أوسع في الحياة. وهكذا يكون الزواج رفقة وعشرة دائمة فيها يحفز كل طرف الطرف الآخر ويحثه على أن يكون كاملاً، فهو ضرورة للتحقيق المتبادل للشخصية. وعلم النفس الحديث يؤكد لنا أن الشخصية لا تنمو إلا من خلال تفاعلها مع أشخاص آخرين؛ وأن مشاركة شخص آخر في الحياة أمر لا غنى عنه لتحقيق النضج والحصول على السعادة، في الوقت الذي تكون فيه الحياة المنفردة المنعزلة مصدراً للتعاسة، ودليلاً على أن هناك إمكانيات في الذات لم تتحقق. ولا يمكن التغلب على هذا الشعور بالعزلة والانفراد والانفصال إنما بالاتحاد الحميم مع شخص آخر.
فبدون الحب، الذي هو عطاءٌ متبادلٌ، لن يكون هذا الاتحاد كاملاً، ويفشل في تحقيق هدفه - إن عشرة رجل مع امرأة بدون حب تصير أمراً يبعث على الملل، وأقصى ما يمكن أن تحققه هو تحقيق بعض المصالح المشتركة للطرفين، لكنها لا تجمعهما معاً كفردين. الحب يوفر للطرفين مدلولاً روحياً يستطيع به كل طرف أن يتخطى اهتمامه بذاته ويشترك بعمق في اهتمامات الشخص الآخر. هذا هو أساس السعادة الحقيقية في الزواج. وكما أن العشرة الكاملة مستحيلة بدون الحب، كذلك فإن الحب الذي لا يقود إلى العشرة والمشاركة الكاملة لا يمكن أن يكون أساساً صحيحاً للزواج. وإهمال هذه الحقيقة هو السبب في تحطيم كثير من العلاقات الزوجية التي بنيت على الحب الرومانسي وحده أو الهيام المشبوب العاطفة. إن العبارة الشاعرية التي يرددها الناس أحياناً والتي تقول: «الحب وحده يكفي» تبالغ في تقدير الناحية العاطفية للزواج، وتعمي عيون المحبين عن رؤية الحقيقة الواقعية وهي أن الحياة الزوجية ليست كلها ترديد قصائد الشعر والحب والإغراق في الأحلام الوردية، ولكنها جهاد وصراع وكفاح، وإذا كان الحب هشاً ولا يستطيع أن يواجه صعوبات الحياة ومشكلاتها التي لا بد أن تحدث، فلن يدوم هذا الحب طويلاً، وسوف يتبخر أمام أقل خلاف أو سوء فهم أو عند أية محنة تصيب العائلة.
إن التكامل المتبادل لشخصين عن طريق الرفقة والمعاشرة لا يمكن أن يتم إلا إذا توفرت النية المخلصة بأنّ هذه المعاشرة والعلاقة ستكون دائمة مدى الحياة. والعلاقة التي يدخل إليها شخص ما وهو يحتفظ في أعماق نفسه ببعض التحفظات أو يتصور أنه من الممكن أن يفصم هذه العلاقة إذا لم تحقق له السعادة، هي علاقة محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ.
إن الفرد الذي يتصور أنه يستطيع أن يتزوج دون أن يعطي حياته كلها لشريكه في الحياة، يجد نفسه وقد حجب جزءاً من ذاته من هذا الاتحاد، وهذا في حد ذاته يُعتبر زعزعة لأساس الزواج. فما لم يعط كل طرف ذاته كلها للآخر بلا تحفظ مدى الحياة، فلن يثق كل طرف في الآخر، وبدون هذه الثقة وهذا الشعور بالأمان والاطمئنان، لن يجد أي من الطرفين شجاعة المخاطرة، ولن يكون هناك سلام حقيقي يقود إلى الاستقرار والتقدم في بناء الأسرة الجديدة.
هذا فضلاً عن أن دوام العلاقة الزوجية أمر ضروري لإعطاء فرصة للنمو التدريجي للفهم والتعاطف والانسجام المتبادل بين الزوجين. وبدون هذا الفهم وهذا التعاطف لن تتحقق السعادة. إن كثيرين من أصحاب النظرة الرومانسية الخيالية يتصورون أنه عندما يقع شخصان في الحب، فسرعان ما تتحطم الحواجز بينهما كما ولو بقوة سحرية، وحالاً يتم الانسجام بلا معوقات. وقد يبدو الأمر كذلك في نزوة الانفعال الطارئ والحماس الوقتي؛ لكن الواقع يؤكد عكس ذلك بإن عملية التفهم المتبادل والانسجام معاً عادة ما تتم ببطء شديد... ولعل عدم استعداد الشريكين لتقبل وتحمّل معاناة هذا التكيّف البطيء هو السبب في كثير من حالات الطلاق التي تتم بعد حب جارف... معظم الناس إن لم يكن كلهم يريدون حلولاً سريعة لمشكلاتهم، وهذا ضرب من الخيال. التكيّف السليم في العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة قد يحتاج إلى شهور وسنين أحياناً، كذلك تكيفهما معاً وانسجامهما في أمور أخرى مثل الذوق، والنظرة إلى الحياة، والطباع، قد يحتاج إلى وقت أطول. وهذا ليس شيئاً غريباً إذ أنّ أنانية الإنسان واهتمامه الزائد بنفسه، وغير ذلك من المكونات المركبة في شخصيته تعوق قدرته على عطاء النفس للطرف الآخر بلا حدود، وتحتاج إلى وقت وصبر لكي تجد طريقها إلى الاستقرار.
لذلك فقد صدق من قال: إن أطيب الثمار في الزواج، نجنيها بعد وقت طويل؛ وإن أجمل اختبارات السعادة في الحياة الزوجية نختبرها في السنوات المتأخرة بعد الزواج وليس في السنوات المبكرة؛ على خلاف ما يظن الكثيرون.
والزواج المسيحي هو اقتران رجل واحد بامرأة واحدة اقتراناً شرعياً مدى حياة الزوجين - وعليه فإنه يتصف بصفتين أساسيتين هما: استمرارية العلاقة، وانفراد العلاقة مع شريك واحد. وكتعبير عن هاتين الصفتين تُؤخذ عهود الإخلاص والأمانة الزوجية على الزوجين عند إجراء عقد الزواج. وهذه العهود تتضمن المحبة والإخلاص والوفاء في الصحة والمرض، في السراء والضراء، وحفظ الإنسان نفسه للآخر دون سواه ما دام الطرفان على قيد الحياة.
وقد يتساءل البعض عن ضرورة هذه العهود ما دام الطرفان يحب أحدهما الآخر. والجواب على هذا التساؤل يقودنا إلى صميم طبيعة الزواج المسيحي. فمع أن الحب شرط لا غنى عنه في الزواج السعيد، لكن الزواج يتطلب ما هو أكثر من الحب - إنه يتطلب مع المحبة الالتزام الأخلاقي والشرعي.
إن الزواج ليس اتفاقاً طبيعياً فحسب، ولكنه قرار أخلاقي مؤسس على الاتفاق الطبيعي. إن الزواج ليس مجرد إحساس شخصين أنهما مرتبطان معاً بالحب ولذلك يعطي أحدهما نفسه للآخر في علاقة جنسية، لكن الزواج يتم عندما يعترف الطرفان بالترتيب الإلهي لشريعة الزواج كرباط مقدس، وإقرار الطرفين بأنهما مرتبطان بهذا الرباط.
وعلى هذا يكون للزواج أساس ذاتي هو عاطفة الزوج والزوجة أحدهما نحو الآخر، وله أيضاً أساس موضوعي أي خارج عن الذات. هو إقرار الزوجين بطبيعة الزواج كاتحاد فريد، يخلقه فيهما اختيارهما الحر للدخول فيه، وتترتب عليه مطاليب والتزامات. لهذا السبب يُعتبر الإخلاص أساسياً في الزواج لأنه العامل الأخلاقي الذي يُثري ويعمق الحب الطبيعي ويزيده قيمة وجمالاً. فعن طريق الإخلاص، تصير المشاعر الطبيعية في الإنسان أمراً شخصياً يتجه نحو شخص محدد، وعن طريق العهود تندمج العواطف مع الإرادة الشخصية في رباط مقدس يكون مبرراً لأن يتقبل كل من الشخصين لمخاطرة حياة العشرة الدائمة مع الشخص الآخر، هذه العشرة التي يهب فيها كل شخص نفسه للآخر.
ومن المؤسف أن كثيرين في عصرنا الحاضر قد ابتعدوا قليلاً أو كثيراً عن هذه الصورة المثالية؛ وابتدأ البعض يشك في قدرتها على الصمود أمام تجارب الحياة المعاصرة. وقد ساهمت بعض النظريات الحديثة في زعزعة ثقة الناس في هذه الصورة. فقد قال بعض علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان): إن المثل العليا للحياة الزوجية وليدة بعض الحضارات القديمة وهي بذلك نسبية وليست مطلقة، ومتغيرة وليست ثابتة. وقال بعض علماء علم الاجتماع إن الحياة الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية في الحقبات الأخيرة تركت بصماتها على قيم الحياة الزوجية وأدخلت فيها بعض التعديلات. وحذر بعض أطباء النفس من الكبت الجنسي قائلين إنه يؤدي إلى الأمراض النفسية، في الوقت الذي نادى فيه أصحاب النظرة المادية الطبيعية بما سبق أن ذكرناه عن إمكانية ممارسة الاشواققبل الزواج؛ وأضاف آخرون أنه من العسير أن يلتزم الإنسان بدوام الزواج، وتساءلوا: أليس من الممكن أن نترك الباب مفتوحاً للتنصل من عهود الزواج إذا لم يستمر الحب قائماً بين الزوجين؟ ولماذا لا ننظر إلى الزواج كتجربة يمكن أن تنجح أو تفشل، وفي حالة الفشل لماذا لا نتيح الفرصة لتجربة ثانية قد يكون حظها من النجاح أوفر من الأولى؟!!
أمام هذه الأسئلة ونظائرها، كان من الضروري أن ندرس بعناية وعمق عما إذا كان نظام الزواج المسيحي قد أصبح غير ملائم للإنسان المعاصر، أم أنه مؤسس على حقائق متأصلة في الطبيعة الإنسانية لا تتغير، وبذلك فهو يستطيع أن يثبت أمام كل الظروف المتغيرة في الحياة المعاصرة.
إننا بعد الدراسة المستفيضة الموضوعية، وبعد تقليب جميع وجهات النظر، واستعراض كافة النظريات السائدة في المجتمع المعاصر، وبالاستعانة بأحدث مما وصلت إليه العلوم الحديثة من أبحاث، وفي نور كلمة الله، نريد أن نؤكد أن الزواج المسيحي بصورته المثالية التي ذكرناها وهي الاقتران الشرعي المقدس بين رجل واحد وامرأة واحدة مدى حياتهما معاً، مؤسس على أسس أصيلة في نظام الحياة والطبيعة البشرية، وبذلك لا يمكن أن نتركه نهباً لتقلبات وتغيرات الأمزجة والظروف في مختلف العصور.
الفروق الجنسية بين الرجل والمرأة جزء من نظام الخليقة. هذه الفروق السيكلوجية والبيولوجية تشير إلى أن كلا من الرجل والمرأة ليس كاملاً بمفرده، وإن الجنسين يحتاج أحدهما إلى الآخر، ليس لإرضاء الرغبات والدوافع الجنسية فحسب، بل ليكمل أحدهما الآخر. هذا هو الأساس الوجودي الأنثروبولوجي للزواج. فبعد أن خلق الله آدم قال الله «لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ» (تك 2: 18) وبعد أن خلق الله حواء، قال الكتاب «لِذٰلِكَ يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً» (تك 2: 24). إن القول «ليس جيداً أن يكون آدم وحده» لا تشير إلى حالة الوحدة أو العزلة النفسية فحسب، بل إلى حالة الوجود نفسه أو الكينونة ... إن آدم يحتاج إلى شخص ليكمله. والمعين الذي يحتاجه الرجل ليس مجرد فرد يقتسم معه العمل حتى يستطيع هو أن يصطاد أو يزرع، بينما تقوم هي بطهي الطعام وترتيب المنزل. ولكن المعين شخص يقدر جهوده، ويشاركه ميوله واهتماماته، ويمنحه العاطفة التي ينالها بدوره منه أيضاً، ويثري حياته بأن ينتزعه خارج ذاته إلى دائرة أوسع في الحياة. وهكذا يكون الزواج رفقة وعشرة دائمة فيها يحفز كل طرف الطرف الآخر ويحثه على أن يكون كاملاً، فهو ضرورة للتحقيق المتبادل للشخصية. وعلم النفس الحديث يؤكد لنا أن الشخصية لا تنمو إلا من خلال تفاعلها مع أشخاص آخرين؛ وأن مشاركة شخص آخر في الحياة أمر لا غنى عنه لتحقيق النضج والحصول على السعادة، في الوقت الذي تكون فيه الحياة المنفردة المنعزلة مصدراً للتعاسة، ودليلاً على أن هناك إمكانيات في الذات لم تتحقق. ولا يمكن التغلب على هذا الشعور بالعزلة والانفراد والانفصال إنما بالاتحاد الحميم مع شخص آخر.
فبدون الحب، الذي هو عطاءٌ متبادلٌ، لن يكون هذا الاتحاد كاملاً، ويفشل في تحقيق هدفه - إن عشرة رجل مع امرأة بدون حب تصير أمراً يبعث على الملل، وأقصى ما يمكن أن تحققه هو تحقيق بعض المصالح المشتركة للطرفين، لكنها لا تجمعهما معاً كفردين. الحب يوفر للطرفين مدلولاً روحياً يستطيع به كل طرف أن يتخطى اهتمامه بذاته ويشترك بعمق في اهتمامات الشخص الآخر. هذا هو أساس السعادة الحقيقية في الزواج. وكما أن العشرة الكاملة مستحيلة بدون الحب، كذلك فإن الحب الذي لا يقود إلى العشرة والمشاركة الكاملة لا يمكن أن يكون أساساً صحيحاً للزواج. وإهمال هذه الحقيقة هو السبب في تحطيم كثير من العلاقات الزوجية التي بنيت على الحب الرومانسي وحده أو الهيام المشبوب العاطفة. إن العبارة الشاعرية التي يرددها الناس أحياناً والتي تقول: «الحب وحده يكفي» تبالغ في تقدير الناحية العاطفية للزواج، وتعمي عيون المحبين عن رؤية الحقيقة الواقعية وهي أن الحياة الزوجية ليست كلها ترديد قصائد الشعر والحب والإغراق في الأحلام الوردية، ولكنها جهاد وصراع وكفاح، وإذا كان الحب هشاً ولا يستطيع أن يواجه صعوبات الحياة ومشكلاتها التي لا بد أن تحدث، فلن يدوم هذا الحب طويلاً، وسوف يتبخر أمام أقل خلاف أو سوء فهم أو عند أية محنة تصيب العائلة.
إن التكامل المتبادل لشخصين عن طريق الرفقة والمعاشرة لا يمكن أن يتم إلا إذا توفرت النية المخلصة بأنّ هذه المعاشرة والعلاقة ستكون دائمة مدى الحياة. والعلاقة التي يدخل إليها شخص ما وهو يحتفظ في أعماق نفسه ببعض التحفظات أو يتصور أنه من الممكن أن يفصم هذه العلاقة إذا لم تحقق له السعادة، هي علاقة محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ.
إن الفرد الذي يتصور أنه يستطيع أن يتزوج دون أن يعطي حياته كلها لشريكه في الحياة، يجد نفسه وقد حجب جزءاً من ذاته من هذا الاتحاد، وهذا في حد ذاته يُعتبر زعزعة لأساس الزواج. فما لم يعط كل طرف ذاته كلها للآخر بلا تحفظ مدى الحياة، فلن يثق كل طرف في الآخر، وبدون هذه الثقة وهذا الشعور بالأمان والاطمئنان، لن يجد أي من الطرفين شجاعة المخاطرة، ولن يكون هناك سلام حقيقي يقود إلى الاستقرار والتقدم في بناء الأسرة الجديدة.
هذا فضلاً عن أن دوام العلاقة الزوجية أمر ضروري لإعطاء فرصة للنمو التدريجي للفهم والتعاطف والانسجام المتبادل بين الزوجين. وبدون هذا الفهم وهذا التعاطف لن تتحقق السعادة. إن كثيرين من أصحاب النظرة الرومانسية الخيالية يتصورون أنه عندما يقع شخصان في الحب، فسرعان ما تتحطم الحواجز بينهما كما ولو بقوة سحرية، وحالاً يتم الانسجام بلا معوقات. وقد يبدو الأمر كذلك في نزوة الانفعال الطارئ والحماس الوقتي؛ لكن الواقع يؤكد عكس ذلك بإن عملية التفهم المتبادل والانسجام معاً عادة ما تتم ببطء شديد... ولعل عدم استعداد الشريكين لتقبل وتحمّل معاناة هذا التكيّف البطيء هو السبب في كثير من حالات الطلاق التي تتم بعد حب جارف... معظم الناس إن لم يكن كلهم يريدون حلولاً سريعة لمشكلاتهم، وهذا ضرب من الخيال. التكيّف السليم في العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة قد يحتاج إلى شهور وسنين أحياناً، كذلك تكيفهما معاً وانسجامهما في أمور أخرى مثل الذوق، والنظرة إلى الحياة، والطباع، قد يحتاج إلى وقت أطول. وهذا ليس شيئاً غريباً إذ أنّ أنانية الإنسان واهتمامه الزائد بنفسه، وغير ذلك من المكونات المركبة في شخصيته تعوق قدرته على عطاء النفس للطرف الآخر بلا حدود، وتحتاج إلى وقت وصبر لكي تجد طريقها إلى الاستقرار.
لذلك فقد صدق من قال: إن أطيب الثمار في الزواج، نجنيها بعد وقت طويل؛ وإن أجمل اختبارات السعادة في الحياة الزوجية نختبرها في السنوات المتأخرة بعد الزواج وليس في السنوات المبكرة؛ على خلاف ما يظن الكثيرون.