بقلم- محمد العمدة
إخواني المصريين: أتابع معكم عبر شاشة الوفد الأسبوعي« سلسلة مقالاتي عن »المواطنة في الإسلام والمسيحية«، فقد تحدثت في المقال السابق عن مشروع قانون دور العبادة الموحد باعتبار أن مسألة إنشاء دورالعبادة في مصر هي أحد أهم أسباب الفتنة، وتحدثت عن أهم مزايا مشروع القانون، وما ينبغي أن يضاف إليه حتي نغلق هذا الملف إلي الأبد، ونجتمع معاً لبناء مصر الحديثة التي يمكنها أن تعيش وتقف علي قدميها في ظل عالم يحارب الضعفاء بالأسلحة النووية والبيولوجية والطائرات التي لا تدركها الصواريخ، لا أن نتجمع حول كنيسة تبني لنرجم بعضنا البعض بالحجارة وزجاجات المولوتوف في مشهد يثير سخرية أعدائنا الذين يتدخلون بألف وسيلة ووسيلة لإذكاء هذا المشهد حتي تشتعل المعارك الداخلية، فننشغل بأنفسنا وننصرف عنهم وعن مشروعاتهم العدائية الاستعمارية.
والآن أتحدث عن سبب آخر من أسباب الفتنة في مصر وهو تحول المسيحي إلي اعتناق الإسلام والعكس والذي يصاحبه دوماً سلسلة من الصراعات الخطيرة بين المسلمين والمسيحيين تراق فيها الدماء ويمثل فيها بجثث الضحايا - وأتساءل: هل يقبل الإسلام أو تقبل المسيحية مثل هذه المعارك لمجرد أن مسلماً اعتنق المسيحية أو مسيحياً اعتنق الإسلام؟
حين تبحث عن إجابة لهذا السؤال في أحكام الشريعة الإسلامية فإن أول ما يقابلك هو مجموعة من الآيات القرآنية تؤكد علي مبدأ حرية العقيدة علي نحو قاطع لا يقبل الشك أو التأويل، نذكر منها:
»ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين« (يونس - 99).
»فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ« (الشوري - 48)
»فذكر إنما أنت مذكر(21) لست عليهم بمسيطر(22) إلا من تولي وكفر(23) فيعذبه الله العذاب الأكبر(24) إن إلينا إيابهم(25) ثم إن علينا حسابهم« (الغاشية - من 21:26)
»وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر« (الكهف - 29)
»إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً« (الإنسان - 3)
»لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي« (البقرة - 256)
إذا كانت الآيات الكريمة السابقة تقر حرية الاعتقاد علي هذا النحو لدرجة قول المولي عز وجل »فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر« فكيف نفهم قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: من بدل دينه فاقتلوه؟
الكثير من الفقهاء وعلي ضوء الحديث السابق رأوا أن الارتداد عن الإسلام جريمة عقوبتها القتل، بينما رأي البعض أنه لا يمكن تطبيق هذا الحديث لتعارضه مع القرآن الكريم ومنهم الدكتور محمد سليم العوا الذي قال: »إن المقرر في أصول الفقه أن القرآن الكريم لا ينسخه إلا قرآن مثله أو سنة متواترة، ولا يصح تطبيق حديث يتعارض مع صريح القرآن«، وحاول البعض الآخر التوفيق بين الحديث النبوي والآيات القرآنية سالفة الذكر منهم الأستاذ محمد عابد الجابري الذي يقول: لنستبعد الشك في صحة الحديث، فقتال المرتدين في زمن خلافة أبي بكرالصديق واقعة تاريخية لاشك فيها، ولكن لابد أن نميز بين المرتد الذي يغير دينه كشخص ليست له أية دوافع أخري غير اقتناعه الشخصي الديني وهذا حكمه ما ورد في بعض الآيات عقاب أخروي لا غير، وبين المرتد بدافع خارج مجال الاعتقاد المحض كالمرتدين الذين حاربهم أبوبكر الصديق بوصفه رئيساً للدولة، لأنهم لم يكونوا مجرد أشخاص غيروا عقيدتهم بل كانوا أناساً أعلنوا التمرد علي الدولة فامتنعوا عن دفع الزكاة بدعوي أنها كانت التزاماً منهم للرسول عليه الصلاة والسلام وحده دون غيره، بل نظموا أنفسهم للانقضاض علي الدولة، فالمرتد بهذا المعني هو من خرج علي الدولة إسلامية كانت أو غير إسلامية محارباً أو متأمراً أو جاسوساً للعدو، ومن ثم فحكم القتل علي المرتد بهذا المعني ليس ضد حرية الاعتقاد بل ضد خيانة الأمة والوطن والدولة وضد التواطؤ مع العدو أو التحول إلي لص أو عدو محارب«.
والحقيقة أن هذا الرأي التوفيقي يسانده حديث النبي - صلي الله عليه وسلم - الذي ورد في صحيح البخاري: »لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدي ثلاث: النفس بالنفس والثيب الزاني، والمارق عن الدين التارك لجماعة«، ذلك أن النبي - صلي الله عليه وسلم - والذي أوتي جوامع الكلم ما كان يضيف عبارة »التارك للجماعة«، في الحديث السابق تزيداً، وإنما أراد أن يضيف بها شرطاً إلي الخروج عن الدين، بل إن هناك حديثاً في صحيح البخاري يؤكد إما عدم صحة حديث قتل المرتد أو علي الأقل يفيد عدول النبي - صلي الله عليه وسلم - عن عقوبة قتل المرتد علي نحو ما فعل في مسألة زيارة القبور، فقد ورد في صحيح البخاري »أن النبي صلي الله عليه وسلم كان في غزوة، فقام رجل من المهاجرين بضرب رجل من الأنصار وكادت تحدث فتنة بفعل عبدالله بن أبي بن أبي سلول والذي قال حين سمع بالواقعة: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعز منها الأزل، فبلغ النبي صلي الله عليه وسلم قولته وقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلي الله عه وسلم: دعه حتي لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه«.
لقد رفض النبي - صلي الله عليه وسلم - قتل عبدالله بن أبي رغم علمه بأنه منافق يظهر الإسلام ويضمر الكفر ويسعي لقتل النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - ويصح أن يفسر ذلك بأنه عدول عن قتل المرتد لأن الضرر الواقع من قتل المرتد أكبر بكثير من النفع الذي يمكن أن يتحقق بقتله، بل ربما لا يكون في قتله نفع.
نخلص مما تقدم حسب الراجح من بين الآراء السابقة والذي تستريح له نفسي أن المرتد عن الإسلام واعتنق ديانة أخري أو ارتد إلي الكفردون أن يحارب الإسلام أو يسئ إليه أو يدعو غيره إلي تركه فإن له عقوبة أخروية وليس عليه عقوبة دنيوية.
أما من خرج من الإسلام وأعلن الحرب علي الدين الإسلامي فينبغي أن تقرر له عقوبة تعزيزية بخلاف القتل، لأنها عقوبة غير ثابتة وغير مقطوع بها، ويعاقب بذات العقوبة من دخل إلي الإسلام دون قناعة أو رغبة حقيقية في اعتناقه وإنما لتحقيق مآرب خاصة كالمسيحي الذي يشهر إسلامه ليتخلص من زوجته ثم يعلن ارتداده عن الإسلام.
ومما يؤكد أن حكم المرتد عن الإسلام دون أن يحارب الإسلام هو العقاب في الآخر دون عقوبة في الدنيا أن جميع الآيات القرآنية التي تحدثت عن الردة لم تجعل لها عقوبة دنيوية رغم أن القرآن الكريم أشار صراحة إلي عقوبات دنيوية في بعض الجرائم مثل القتل والسرقة والزنا والإفساد في الأرض، ونذكر من الآيات التي تحدثت عن المرتدين قول المولي عز وجل: »من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم« (النحل - 106)
»ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون« (البقرة - 217)
وبخصوص الارتداد عن المسيحية واعتناق المسيحي للإسلام أو غيره فإن مرجعية البحث هي الكتاب المقدس طالما أننا نبحث ردود فعل الأخوة المسيحيين حيال ذلك.
وبمطالعة الكتاب المقدس سنجد أن معالجة العهد القديم للردة عن الدين تختلف عن معالجة العهد الجديد، فالعهد القديم كما نعلم هو جزء من الكتاب المقدس يتناول ما أنزل علي سيدنا موسي عليه السلام ويدخل ضمن الإيمان المسيحي لقول المسيح عليه السلام: »لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء، ما جئت لأنقض، بلا لأكمل«..
وبالرجوع إلي أسفار العهد القديم سنجد أنها تقرر للمرتد عن تعاليم موسي عليه السلام عقوبة القتل في ستة مواضع نذكرمنها ما جاء في سفر التثنية:
»وإذا أضلك سراً أخوك من أمك أو ابنك أو زوجتك المحبوبة أو صديقك الحميم قائلاً: لنذهب ونعبد آلهة أخري غريبة عنك وعن آبائك من آلهة الشعوب الأخري المحيطة بك أو البعيدة عنك من أقصي الأرض إلي أقصاها فلا تستجيب له ولا تصغ إليه، ولا يشفق قلبك عليه، ولا تترأف به، ولا تتستر عليه، بل حتماً تقتله، كن أنت أول قاتليه، ثم يعقبك بقية الشعب، ارجمه بالحجارة حتي يموت«.
كما ورد في العهد القديم أنه تم قتل ثلاثة آلاف ممن عبدوا العجل.
وقد سئل أحد الباحثين المسيحيين عن حكم المرتد الوارد في العهد القديم، فأجاب: هذا في العهد القديم أما في العهد الجديد فقد جاء في رسالة يوحنا الثانية: »كل من تعدي ولم يثبت في تعليم المسيح، فليس له الله، ومن يثبت في تعليم المسيح فهذا له الأب والابن جميعاً، إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم فلا تقبلوه في البيت، ولا تقولوا له سلام، لأن من يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة«.
ويضيف الباحث أنه علي ضوء ذلك، فلا يوجد هناك توصية بالعنف ضدهم - أي المتحولين عن المسيحية - ولا تهديد بالقتل، كل واحد مسئول عن نفسه أمام الله.
مما تقدم يتضح أن الإسلام والمسيحية قد اعتمدا مبدأ حرية العقيدة »من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر«.
فلا مجال بعد ذلك لكي تقوم الدنيا ولا تقعد لمجرد أن مسلماً خرج من الإسلام إلي الكفر أو المسيحية، أو أن مسيحياً خرج من المسيحية إلي الإسلام أو الإلحاد، ولا مجال لكي يسعي اتباع كل ديانة لاسترداد من خرج عن دينه وقتله أو احتجازه أو قهره للعودة إلي دينه لأن ذلك يتعارض مع الإسلام والمسيحية معاً ويؤدي إلي فتن لا تحمد عقباها بينما لا يضر الإسلام أو المسيحية أن يخرج منهما أحد.
وهذا لا يمنعنا أن نجرم قيام أحد بإجبار غيره علي اعتناق ديانة غير ديانته سواء بالإكراه المادي أو المعنوي أو من خلال الترغيب بعطايا مادية، لأن مثل هذه الأعمال أيضاً من شأنها أن تساهم في إحداث الفتنة.
أدام الله عز وجل علي مصر وحدة شعبها، وجعل مستقبلها خيراً من ماضيها..
الوفد